قطار أسيوط و الحب المغلوط
“مقتل أكثر من 50 طفلاً في حادث مروع بأسيوط”
استيقظ الجميع على ذلك الخبر المفزع والمفجع يوم السبت 17 نوفمبر 2012، حيث جاء الخبر بجميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ثم جاءت تفاصيل الحادث خلال الساعات التالية لتزيدنا صدمة وحزنًا على ذلك الحادث الأليم الذي أسفر عن مقتل أكثر من خمسين طفلاً كانوا في أتوبيس المدرسة. فبينما كان الأتوبيس يعبر قضبان السكة الحديدية بمزلقان “المندرة”، تلك القرية الصغيرة التابعة لمحافظة أسيوط، فوجئ الجميع بقطار قادم بسرعته القصوى ويصطدم بالأتوبيس؛ مما تسبب في موت هؤلاء الأطفال. أهتزت القلوب وأدمعت العيون بحرقة شديدة حزنًا على هؤلاء الأطفال الذين ماتوا نتيجة إهمال جسيم، من عامل المزلقان أو غيره ممن تسببوا في ذلك الحادث الأليم.
وبعد يومين من ذلك الحادث، شاهدت في المساء لقاء تلفزيوني مع والد أحد الأطفال الذين لقوا حتفهم في ذلك الحادث. كان الحزن يطل من عينيه، والكآبة تشع من قسمات وجهه، وظل المذيع يسأله العديد من الأسئلة وهو يجيب بحزن يدعو للشفقة.
وفجأة سأله المذيع قائلاً: “ما هو آخر شيء فعلته مع ابنك؟”
ظل الأب صامتًا فترة طويلة، وكأنه يحاول أن ينسى تلك اللحظة العصيبة، ثم هز رأسه يمينًا ويسارًا، وتطلع إلى المذيع لحظات قبل أن يقول بسرعة: “لطمته حتى يركب الأتوبيس”!! ثم أشاح بوجهه بعيدًا، وملأت الدموع عينيه، ثم سالت على وجنتيه بغزارة، معلنة حسرته وحزنه الذي لا يدركه أحدٌ سواه. وانتهى الحوار.
ظللت لفترة غير مستوعب لما سمعته للتو: يا لها من مأساة لا يصدِّقها عقل! يا له من شعور بالذنب والندم لن يفارق ذلك الرجل إلا بمعجزة؛ لقد أجبر ابنه على ركوب الأتوبيس، وبعد أقل من ساعة سمع بخبر موت ابنه في نفس الأتوبيس!!
حتمًا يملأه الشعور بأنه المتسبب في موت ابنه، وحتمًا هو يشعر بالندم على ما فعل. ربما تطارده صورة ابنه وهو يقف أمامه رافضًا ركوب الأتوبيس، وبالتأكيد تطارده أيضًا صورته وهو يهوي بيده على وجه ابنه ليجبره على الركوب، إنها حقًا مأساة.
نحن بالطبع لا نختلف على أن ذلك الأب أقدم على هذا الأمر بدافع الحب الشديد لابنه؛ فهو يريد له الخير كأي أب طبيعي؛ لذلك أجبره على الذهاب للمدرسة حتى يتعلم ويصير إنسانًا نافعًا، ولأنه لم يكن يعلم ما سيحدث بعد دقائق قليلة فقد فعل ذلك الأمر دون تردد أو تراجع. وهذا هو الفرق الشاسع بين الأب الأرضي والآب السماوي؛ فالأب الأرضي قد يحبك كما لم يحبك أحد، لكنه في كثير من الأحيان لا يعلم الأفضل لك؛ لأنه لا يعرف المستقبل. أما الآب السماوي، فهو يحبك كما لم يحبك أحدٌ على الإطلاق، لكنه أيضًا يعلم كل المستقبل؛ لذلك فهو الوحيد القادر أن يقودك في المسار الصحيح وينير لك الطريق. لن يشير عليك أن تسلك طريقًا هو لا يعرف نهايته، ولن يقودك في أمرٍ ما ثم يصيبه الندم والحسرة على ما فعل؛ فهو كلي العلم والمعرفة، لن يحتار يومًا حينما تأتي إليه بحيرتك وتسأله المشورة، لن يتردد يومًا في قول المفيد والصالح والنافع لك.
أتعلم أن تلك المقارنة بين الأب الأرضي والآب السماوي قد تكلم عنها الرب يسوع المسيح - له المجد - أثناء وجوده هنا على الأرض؟ لقد قال للجموع يومًا: «أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا، يعطيه حجرًا؟ وإن سأله سمكة يعطيه حية؟ فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات، يهب خيرات للذين يسألونه!» (متى7: 9 11). هنا يؤكد المسيح أن الآب السماوي هو أفضل لك بما لا يقاس من الأب الأرضي؛ لأن أبوك الأرضي قد يحبك ويتمنى لك الخير لكن ليس في يده دائمًا أن يضمن لك نوال هذا الخير، بينما أبوك السماوي يحبك أكثر بكثير ويحب لك الخير وهو أيضًا قادر على فعل ما هو لخيرك دائمًا. فقد يكون آخر ما يفعله الأب الأرضي لك أن يلطمك قبل الموت - كما حدث في هذه القصة - لكن الآب السماوي لن يفعل ذلك أبدًا. فهل تثق به وتضع كل اتكالك وثقتك في محبته؟ أم أنك لم تزل بعيدًا عن حضنه ولا تعرف شيئًا عن محبته الفائقة لك؟
أدعوك الآن أن تأتي مسرعًا، وتستلقي في أحضان إلهك المحب الحنون، طالبًا منه أن يملأك بالإيمان والثقة في محبته وقدرته الفائقة؛ لتتمتع بأحضانه الدافئة وقدرته العظيمة وتعرف مشيئته الصالحة من نحوك.