وقعت أحداث قصتنا هذه في ألمانيا، حيث يوجد نظام في التعليم يتيح للطالب أن يعمل في أي مهنة خلال العطلة الصيفية، وتُوضع له درجات إضافية على هذا العمل في شهادته الدراسية؛ وذلك للتشجيع على العمل منذ الصغر. أما عن بطل قصتنا اليوم فهو طالب كان يعمل في العطلة الصيفية في إحدى الحدائق الخاصة لأحد البيوت. كان يقوم كل يوم بقص الحشائش وتقليم الأشجار وغيرها من المهام المطلوبة في الحديقة. وفي أحد الأيام، دخل ذلك الشاب إلى مكتب للاتصالات، وأجرى اتصالاً بإحدى السيدات، يعرض عليها العمل لديها في حديقة منزلها. فأبلغته تلك السيدة أن لديها شخصًا يعمل لديها في حديقة المنزل. فقدَّم الشاب عرضًا مغريًا بأنه على استعداد أن يعمل هو بدلاً من الشخص الذي يعمل لديها ويأخذ نصف الأجر.
لكن السيدة رفضت وأبلغته إنها راضية عن الشخص الذي يعمل لديها. فلم يفشل ذلك الشاب الطموح، فقدَّم لها عرضًا آخر أن يعمل هو في جزء من الحديقة، ويعمل الشخص الآخر في الجزء الآخر من الحديقة. فجاءته الإجابة أيضًا بالرفض. فتوسل إليها أن لا تُغلق السماعة وتستمع لعرضه الأخير. ثم أكمل حديثه مباشرة دون أن ينتظر موافقتها، بأنه مستعد أن يعمل لديها في الأوقات الراحة الخاصة بالشخص الذي يعمل لديها. فجاءت إجابتها الأخيرة قاطعة وحاسمة بأنها في غاية الراحة وتمام الرضا مع ذلك الشخص الذي يعمل لديها، ولا تريد شخصًا سواه. فابتسم الشاب وهو يضع سماعة التليفون مكانها.
كان المسؤول عن مكتب الإتصالات يراقب ما يحدث، ولما وجد ذلك الشاب قد فشل في إقناع تلك السيدة قال له إنه يمكنه أن يساعده في البحث عن عمل مناسب له. فاتسعت ابتسامة ذلك الشاب الذكي أكثر. وقال للرجل: “أنا لا أحتاج لعملٍ، فأنا مشغول جدًا، وليس لدي وقت”. فاندهش الرجل واتسعت عيناه من شدة الدهشة وقال للشاب: “إذًا فما فائدة تلك المكالمة التي كنت تُجريها أمامي الآن؟ لقد كنت تتوسل لتلك السيدة حتى توافق على الإستعانة بك، وقد أوشكت على البكاء!!” فأجاب الشاب وعيناه تلمعان بذكاء شديد: “أنا هو الشخص الذي يعمل عند تلك السيدة، وقد أردت فقط أن أعرف مدى تمسكها بي، ورضاها عني وعن عملي. وقد تيقنت الآن أنها متمسكة بي تمامًا وراضية عني تمام الرضا”.
غادر ذلك الشاب مكتب الاتصالات، تاركًا خلفه صاحب المكتب وقد امتلأ وجهه بدهشة وتعجب شديدين، تحولا إلى ابتسامة إعجاب وتقدير لذكاء ذلك الشاب الصغير.
القارئ العزيز
هل تهتم بحياتك أمام الله؟ هل تبحث دائمًا عن رضاه؟ هل تشعر أن رضا الله لا يساويه أمرٌ آخر في الحياة مهما علا شأنه؟
البشر من حولنا يبحثون طوال الوقت عن رضا الله، لكنهم للأسف لا يعرفون كيف يرضونه. هناك من يصرخون ليلاً ونهارًا طالبين من الله أن يرضى عنهم دون جدوى؛ لأن الشيطان أعمى أذهانهم عن الطريق الصحيح لإرضاء الله. هم لا يعلمون أن الله قد رضي عنا في صليب المسيح، وإننا نتمتع بهذا الرضا بقبول عمله في حياتنا والإيمان بصليبه، والثقة بأن المسيح هو الطريق الوحيد لخلاص نفوسنا. مكتوب في سفر أيوب كلمات رائعة جدًا عن الشخص الذي يُرضي الله، وصلاته مقبولة لدى الله؛ فيقول عن ذلك الإنسان إنه «يُصَلِّي إِلَى اللهِ فَيَرْضَى عَنْهُ، وَيُعَايِنُ وَجْهَهُ بِهُتَافٍ فَيَرُدُّ عَلَى الإنْسَانِ بِرَّهُ. يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ، وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ. فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ، فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ» (أيوب33: 26 –28). إنها النعمة الخالصة دون تدخل الإنسان في الأمر.
لكننا هنا نقصد أيضًا فئة المؤمنين الذين قبلوا المسيح في حياتهم، وما تزال هناك مناطق مظلمة في حياتهم، وأركان مغلقة في قلوبهم، ومناطق مقيدة في أفكارهم وأذهانهم. أولئك الذين يعلمون، في قرارة نفوسهم، أنهم لا يعيشون الحياة التي ترضي الله وتشبع قلبه، رغم أنهم مؤمنين. من يعرفون الحق لكنهم لا يعيشونه. من يدركون الفرق بين النور والظلمة لكنهم لا يهتمون بوجود هذا الفرق في سلوكهم وحياتهم.
كم نحتاج أن نكون مثل ذلك الشاب الرائع الذي لم يكتفِ أو يعتمد على مشاعره، إنما فكَّر واجتهد حتى يتيقن تمامًا أن السيدة التي يعمل لديها راضية عنه تمامًا. لا بد وأن يكون لديك اليقين ذاته وأنت تُصلي وتسبح وتخدم الرب. لا بد وأن يملؤك اليقين نفسه وأنت تتعامل مع أصدقائك، وجيرانك، وأهل بيتك. ليتنا ندرك أن الله «لاَ يُسَرُّ بِقُوَّةِ الْخَيْلِ. لاَ يَرْضَى بِسَاقَيِ الرَّجُلِ. يَرْضَى الرَّبُّ بِأَتْقِيَائِهِ، بِالرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ» (مزمور147: 10، 11). الله لا يبحث عن الأشداء والأقوياء، ولا يُسر بالإمكانيات والقدرات؛ إنما هو يرضى ويشبع بالأتقياء الذين لا يرجون في الحياة إلا رضاه، ولا يطلبون من الدنيا إلا ابتسامته، التي تجعل القلب فَرِحًا والوجه طلقًا. رضاه الذي يعطي طعمًا للحياة، ومذاقًا خاصًا للخدمة. فإذا كنا نسعد كثيرًا حينما نشعر أن قائدًا معينًا، أو شخصًا أكبر منا سنًا يرضى عنا، ويقبل ما نفعله. فكم يكون الشعور، وكيف تكون السعادة، عندما نتيقن من رضا الله عن حياتنا وقبوله تصرفاتنا.
ما أروع هذه الحياة!وما أحلى الشعور برضا الله عن الحياة. إنها كل شيء لمن اختبر حلاوتها. ولا تستقيم الحياة أو تحلو إلا بهذا الشعور العجيب.
كما لا ننسى شيئًا هامًا جدًا؛ أن رضا الله يغنيك عن محاولاتك الدائمة لمعرفة رأي الناس فيك. ومحاولاتك المستمرة لإرضاءهم جميعًا.
أدعوك عزيزي الشاب، أختي الشابة، ألا تتنازل عن هذا المستوى، وألا تقبل بأقل من ذلك. لا تبحث كثيرًا عن رضا الناس، ولا تفتش عن رضا نفسك عن نفسك؛ إنما ضع كل هدفك في إرضاء الله ومعرفة مشيئته لحياتك، من خلال قضاء أوقات طويلة في الصوم والصلاة ودراسة الكتاب المقدس. لتختبر القول الرائع الذي هتف به المرنم: حياتي رضاك يا سيدي