قد تسمعها من سائقٍ للتاكسي، يستيقظ مبكرًا جريًا وراء “قِسطه” من الرزق، ليسدد “أقساطه” من القرض!! ينطلق في طريقه وسط زحام البشر وعناد القدر، ويكتب قناعته على الزجاج الخلفي لسيارته، عنوانها الواضح: “أرزقنا يا رزَّاق”!!
أو قد تسمعها من صياد يخرج “على باب الله” لـ“يصطبح” بالمُلك الذي له!! يبدأ يومه مشبَّعًا بدعوات زوجته، ويقضي نهاره بين طبيعة خالقه، يصطاد سميكاته ويعود في نهاية يومه فرحًا “برزقه” وسط لهفة أولاده، فيجاوبهم بابتسامته: رزقنا الرزَّاق!!
ولأنها كلمة غنية بالخير والنماء، ولأننا تأملنا سابقًا في الجزء الأول منها (راجع مقال “يا فتَّاح يا عليم” بالعدد106)، فجدير بنا أن نلقي نظرة تأملية عميقة على جزئها الثاني “يا رزَّاق”، ونترك جزئها الثالث “يا كريم” لمرة أخرى قادمة.
“يا رزَّاق” والقناعة
من أكثر القناعات الحميدة المتغلغلة في ذهن المواطن المصري؛ هي قناعته بأن الله سبحانه هو “الرزَّاق الكريم” للبشر؛ فالمصري بطبيعته لا يخشى كثيرًا إذا طرأ طارئ على عمله (طُرد أو فُصِل أو نافسه أحد في مكان عمله)، لأن مقتنع أن الله “الرزَّاق” سيتكفل بتوفير العمل البديل له، ولسان حاله “محدش بيبات من غير عشا”. وكذلك هو لا ينشغل كثيرًا إذا أنجب مزيدًا من الأولاد (رغم ثبات دخله كما هو) لأنه مقتنع أن الله “الرزَّاق” سيفتح مع المولود الجديد بابًا جديدًا للرزق، ولسان حاله “كل مولود وليه رزق”. بل الأكثر من هذا، أن كثير من المهن اليومية غير الحكومية (الصياد أو السائق أو التاجر أو المندوب او غيرها)، يكون رأس مالها الوحيد هو هذه القناعة، فيخرجون لعملهم طالبين “الرزَّاق”، ويعيشون حياتهم هم وأولادهم على فيضه “الكريم”.
والحقيقة أن هذه القناعة صحيحة مئة بالمئة، ليس فقط لأن الواقع والحياة والمجتمع يدعمها بشكل يومي، ولكن لأن الكتاب المقدس يعلن لنا كثيرًا أن “الرزَّاق” هي صفة رائعة من صفات الله العظيمة، والتي حاشا أن تتغير أو تتبدل، كما أعلنها أليهو «هُوَذَا اللهُ عَظِيمٌ وَلاَ نَعْرِفُهُ وَعَدَدُ سِنِيهِ لاَ يُفْحَصُ ... وَيَرْزِقُ الْقُوتَ بِكَثْرَةٍ» (أيوب36: 26، 31). أو كما رنّمها داود «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! ... مَلآنَةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ ... كُلُّهَا إِيَّاكَ تَتَرَجَّى لِتَرْزُقَهَا قُوتَهَا فِي حِينِهِ» (مز104: 24، 27). وبالتالي ستظل هذه القناعة ثابتة ثبات صفات الله، وسيظل الله يرزق البشر «بكثرة» و«في حينه» و«لمحبيه» طالما في قلب الإنسان نبض وحياة.
“يا رزَّاق” والنعمة
كثير من البشر يتعاملون مع الله “الرزَّاق” باعتباره مجبرًا على أن يرزقهم؛ لأنهم أفضل من غيرهم، ويعتبرون أنه كلما زاد بِرِّ الإنسان وتقواه لله، كلما زاد نصيبه من “الرزق” المادي والمعنوي، وغاب عن هؤلاء أن المبدأ العام الذي يحكم جميع عطايا الله بالبشر، هو مبدأ النعمة، فهو “يرزقهم” بنعمته فقط، وليس لأي استحقاق بشري.
هذا ما أراد المسيح أن يوضحه، في موعظة الجبل، عندما قال: «...أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ ... لكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ» (مت5: 44، 45). فهنا الله “الرزَّاق” يعامل جميع البشر بنفس الدرجة، مهما كانوا أشرارًا أو صالحين، أبرارًا أو ظالمين، فعلى جميعهم يشرق شمسه التي تدفئهم وتنير لهم وتساعد في تكوين غذاء أجسادهم، وعلى جميعهم أيضًا يجود بمطره عليهم، الذي يملأ أنهارهم، ويسقيهم، ويخرج لهم نباتاتهم وعشبهم. فإذا أدرك الناس هذه الحقيقة، لكفوا كثيرًا عن تزاحمهم حول “رزق” غيرهم، ولرجعوا للـ“رزَّاق” الحقيقي يشكرون نعمته ويتوبون عن خطاياهم ويطلبون رضاه.
“يا رزَّاق” والأبوة
والكثير من البشر يتعاملون مع الله باعتبار أنه مصدر جامد، بدون مشاعر، للأموال والملابس والطعام، وكل علاقتهم به لا تتعدى علاقتهم مع ماكينات صرف الأموال الصماء. فيقدِّمون في صلواتهم وأدعيتهم قائمة بالأشياء التي يحتاجونها، ولا ينتظرون أي رد فعل إلهي سوى استجابة هذه الطلبات. غاب عنهم أنه لا يرزق البشر، فقط لأنه “الرزَّاق” المنَّان، ولكن لأنه أيضًا “أبٌ” حنَّان، الأمر الذي يجهله الكثيرون.
وهذا ما تكلم عنه المسيح أيضًا في ذات الموعظة الشهيرة، حين تكلم عن “الرزق” الإلهي «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ... أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟»، ثم تبعه بمثال أخر عن الكساء «تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا ... أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟»، وفي النهاية يلخِّص نصيحته «فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ ... لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (مت 6: 26-33). ومن يراجع الكلمات البديعة السابقة، يدرك أن المسيح لم يتكلم عن الله باعتباره فقط “الرزَّاق” الأفضل، بل أيضًا باعتباره الأب الأفضل!!
والفرق كبير بين الله “الرزَّاق”، وبين الأب “الرزَّاق”!! فالمسيح شرح لنا أن الأب السماوي، ليس مجرد كائنٍ صامتٍ بدون مشاعر، لكنه يشعر بكافة احتياجات خليقته. فهو كأب نشيط، يُسَرّ بأن يقوت خليقته بيديه بشكل يومي (كما يفعل مع العصافير)، ويسر أكثر وأكثر حين يدرك البشر قيمتهم الغالية جدًا والثابتة في عيني خالقهم (أنتم بالحري أفضل منها). وهو كأب جميل يستمتع باختيار ملابس أولاده وألوانها (كما يفعل مع الزنابق). وهو كأب حنون يشعر بكل الاحتياجات مهما صغرت أو كبرت (يعلم أنكم تحتاجون). بل والأكثر من هذا يريد أن يشركنا نحن في احتياجات ملكوته الأبدي (اطلبوا ملكوت الله وبره) والباقي يعطيه لنا “على البيعة” (وهذه كلها تزاد لكم)، فيا له من “أب” ويا له من “رزَّاق”.
عزيزي، أعرف أنك تدرك جيدًا معنى أن يكون إلهك هو “الرزَّاق”؛ الذي يسدد الاحتياجات ويجيب الصلوات، فهذا أمر تختبره عشرات المرات في يومك، وأثاره عظيمة في جيبك!! ولكن أدعوك – وأدعو نفسي- أن لا نكتفي فقط بهذا المعنى، وندرك أنه في كل “جنيه” يدخل جيبنا وفي كل ذرة طعام تدخل جوفنا، فإن الله العلي يعلن لنا عن أبوته الجليلة التي يريدنا أن نتمتع بها. وكذلك أدعوك - وأدعو نفسي أيضًا - أن نعود إليه بالتوبة، عن كل مرة انشغلنا عن أبوته باحتياجاتنا، وشكَّكنا في محبته وصلاحه الدائم نحونا، واعتمدنا على غيره ليكون هو رأسمالنا وأماننا المادي، وتركنا العصافير والزنابق وحدها تتمتع بالأب “الرزَّاق”، واكتفينا نحن معشر البشر بقناعة في أذهاننا بأن الله هو“الرزَّاق”!!
كنت فاكر إنك مجرد للأكل والشرب واللبس مصدر
وإنك بتدي بس الكويس، أو بجودك بتكون ليه مُجبر
أتاري كل أعمال رحمتك، أساسها نعمتك الغنية
وأكلي وشربي ولبسي وقرشي، بيحتويهم معنى الأبوية
ده كفاية متعة الوجود في أحضانك، ودفدفتك عليَّ بحنية
إرزقني يا “رزَّاق” بفهم يخليني لأبوتك مقدَّر
وأشهد للكون بإحسانك، وباختباري لرزقك أكتر