أيها الماضي العزيز.. أعترف أن حنيني لك يسوقني أحيانًا فيدفعني نحوك، بينما أحيانًا أخرى تأتيني مقتحمًا حاضري لتجوب بي في دهاليزك العتيقة، التي تارة تكون مضيئة وتارة حالكة. لكني من اليوم لن أعطيك فرصة أن تزورني وقتما شئت، أو تقتحمني كما اعتدت. لن أسمح لك أن تتعدى حدودك، فلا تأتِ إليَّ إن لم أدعوك.
أيها الماضي.. كُفَّ عن زيارتي حاملاً باقة ذكريات الصبا بأزهارها الذابلة الشاحبة وأوراقها الجافة الواهنة، التي تذكرني بأفكار خائبة تبنيتها في أيام صباي ومواقف مخزية ماردة صَنَعتها ذاتي المعاندة. كم من قرارات باطلة اتخذّتها ومبادئ صبيانية غير صحيحة تمسّكت بها. لا أريد أن أرى تلك اللوحة الشنعاء التي تذكّرني بقرارات حمقاء حصدت من ورائها مُرَّ الشقاء. أرجوك لا تذكِّرني بتهوري وطيش الصبا، بعد أن نضجت وندمت على فعلها، وإن كنت لا أنكرها، لكني أخجل من ذكرها. قد أبطلت ما لها، فلم تعُد تسود عليَّ، بعد أن بلغت ونضج تفكيري واستقام سلوكي، وبنعمة الله لن أعود إليها ثانية؛ لأني في المسيح خليقة جديدة، فالأشياء العتيقة قد مضت ولن تعود ثانية، وبمعونة الرب لن تسود عليَّ.
هبني أنسى سيدي ذاتي هنا
فعنادي قد أذاقني العنا
فأعيش في حياتي عالمًا أني غريب
ذاكرًا أنك ربي سوف تأتي عن قريب
أيها الماضي.. لا تستغل ضعف إنائي في وقت كربتي وانزعاجي؛ فكياني النفسي هشّ، متقلب المزاج. لا تنتهز فرصة من تأرجح مشاعري وشرود خواطري في واقعي الأليم. كفى مداعبةً لمخيلتي بأحلام اليقظة التي أدمنتها قبلاً في أوقات خلوتي، فجعلتني أسيرًا في زنزانة ذاتي، متصورًا أنني مركز الكون كله. كفى إخراج الأفلام التي أنتجتها في وحدتي وجعلت من نفسي في كل مشاهدها وفصولها بطلاً ينال إعجاب الملا من كل حدب وصوب. لا.. لا وألف لا، لن أسمح لهذه الذكريات أن تعود ثانية في ثوب جديد، من قريب أو بعيد. لقد أبطلت ما للصبا، بعد أن بلغت وأدركت حقيقة نفسي. بعد أن صار الرب سيدي لم تعُد ذاتي هي مولاتي، لقد صُلِبَت مع المسيح لأحيا لا أنا... نعم، بنعمة الله لا أنا؛ بل يحيا المسيح فيَّ. سيكون هو البطل وحده، وهو غرض الحياة بأسرها. وداعًا للخيال المريض.. وداعًا للكبرياء البغيض.. وداعًا للعُجب والغرور بلا رجعة، ولن أسمح - بمعونة الرب - لتلك الخواطر العليلة الزائفة أن تراودني من جديد.
أيها الماضي الأليم.. كُفَّ عني، خُذ صُرَّة الأتراح وامضِ بعيدًا. سئمت طعم أثمارها المُرَّة التي مرَّرت حلقي، وغبَّرت طرقي. لا تستغل سخونة الظروف التي أجتاز فيها لتفتح جروحًا قديمة قد التأمت، ولا تأتني بحزمة الأشواك التي ملأت دروبي لتوخز بذكراها قلبي فتدمع عيني وتنحني نفسي. لأن نار التجارب أنضجتني، وضغوطها شكَّلتني. لن أسمح لك أن تريني الرتوش السوداء وحدها، لأن الصورة الكاملة تعنيني وتعزّيني. نعم بكيت واشتكيت في داخل مغارة آلامي، التي اكتنفها ظلمة جهلي ومحدودية إدراكي، لكن عندما أشرق الرب بنوره عليَّ علمت أنها تدريبات ثمينة لتقويم حياتي ولتزكية إيماني. لن أسمح لك أن تذكِّرني بأوجاعها لتلسعني، بل ذكراها - أن راودني - سيرفعني، ويلقيني من جديد في حضن راعيَّ الرحيم، إله التعويضات الكريم. هو الرب الأمين، الذي أخرج من جفائها حلاوة، ومن تنوّرها أثمن الدرر. لا تعيد على مسامعي صرخات آلامي، لأنه يحلو لي اليوم أن أشدو بأطيب الترنيمات على ذكرى إيقاع تلك الآهات. في المسيح ودَّعت حزني وهمي، بل امتلأت مهجتي بهجة وسلامًا. وإن تذكرها من حولي سيفيض دمع العين حبًا وليس جراح، وأنتهز الفرصة لأشهد عن صلاح الرب وجُود قلبه في أصعب الأوقات.
أيها الماضي العزيز.. يا مستودع ذكرياتي التي طواها الزمن وأرسلها لمخازنك الكبيرة. فرِّغ من أدراجك المخبوءة ورفوفك المكشوفة كل ما أضحى، في ضوء اليوم، رخيصًا ودنيئًا. وليُلقى في بحر النسيان كل ما انتهت صلاحيته، فصار ضارًا أو مسيئًا. فقد قررت أن أنسى كل ما هو وراء، ولن يشغل بالي نجاحي أو فشلي بعواقبهما، سواء كانت مدعاة للفخر أو الخجل. اعلم أيها الماضي أن الكثير مما تحتويه قد غدا زهيدًا في ضوء المستقبل المجيد، سواء كان نجاحًا أم جراحًا، لأن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا، وكل ربح وقتي يخبو بريقه، بل سيفنى ولا يُذكر في ضياء غنى المجد.
لكن أخيرًا أيها الماضي العزيز.. أترك لي أرشيفًا واحدًا، لا أريد سواه. لأني ما حييت لن أنسى محتواه. عفوًا ليس أرشيفًا عتيقًا، بل قُل باقة جميلة، زهورها تزداد مع الأيام جمالاً وبريقًا. أو قُل - إن شئت - كنزًا ثمينًا تلمع جواهره مهما تقادم عمره. إنها باقة وكنز إحسانات سيدي. لقد قرّرت أن أنسخ صفحاتها، ولن أخجل إن قرأها الأحباء وردَّدوها من بعدي. لا بل أريد أن أنقشها لتظل محفورة أمامي مدى حياتي. عزمت من قلبي وقُلت «باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته».
كيف أنسى عظيم أمانته في أوقات ضعفي وخيانتي؟
كيف أنسى أعمال عنايته ويده الرحيمة التي اجتازت بي في مضايق الزمان؟
كيف أنسى جوده وخيره العميم؟
كيف أنسى مراحمه الطيّبة وألطافه الكثيرة؟
كيف أنسى ولائم الهناء في برية مُرَّة وقاسية؟
لا.. لن أنسى،
بل سأذكر وأُخبر عن أفضاله وإحسانه ما حييت.
كيف أنسي سترك طول السنين
يدك تحرسني في كل حين
وقت حزني وقت ضيقي، وسط أمواج الحياة
صرت حصني ورفيقي، صرت لي باب النجاة
أيها الماضي.. أدعوك أن تضع يدك في يدي، فتخدم معي سيدي، وتذكِّرني فقط بما يحرِّك في أعماقي دواعي تعبّدي. فإكرام سيدي هو غرض حياتي وجُلّ مرادي. هو الذي صنعك أيها الماضي، وفي شخصه كل الضمان ليومي وغدي.