المنجي البائس من السيف

 المنجي البائس من السيف (أيوب 5: 15)

قال أحد خدام الرب: إن التاريخ عبرة لمن يعتبر.  هذه حقيقة، ولكن التاريخ نفسه يشهد بأن الإنسان قلَّما استفاد من تاريخه.  أما نحن المؤمنين فلنا امتياز أن نقرأ تاريخ الإنسان مُدوَّنًا بيد المؤرخ الأعظم، الأمين في أقواله؛ روح الله القدوس نفسه.  وما دوَّنه لنا على صفحات الوحي المقدس ليس فقط عبرة لمَن يعتبر، بل هو أيضًا تعليم لمَن يتعلَّم، ودرب لمن يسعى.  

وأهم دروس التاريخ المُقدَّس هو: حماقة وغباوة كل مَن يتحدى الله، ويتطاول على الرب يسوع المسيح، أو على كنيسته التي وعدها أن «أَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا» (متى16: 18).  والتاريخ يُبرهن على أمانة الله، واعتنائه بشعبه عندما يكونون في الضيق والخطر، حتى لا يكونوا مغلوبين بحيله ومكر الأعداء، فهو - تبارك اسمه - المكتوب عنه: «الْمُبْطِلِ أَفْكَارَ الْمُحْتَالِينَ، فَلاَ تُجْرِي أَيْدِيهِمْ قَصْدًا.  الآخِذِ الْحُكَمَاءَ بِحِيلَتِهِمْ، فَتَتَهَوَّرُ مَشُورَةُ الْمَاكِرِينَ ...  الْمُنَجِّيَ الْبَائِسَ مِنَ السَّيْفِ، مِنْ فَمِهِمْ وَمِنْ يَدِ الْقَوِيِّ.  فَيَكُونُ لِلذَّلِيلِ رَجَاءٌ» (أيوب5: 12-16).

ويا للغباوة أن يُحاول الإنسان أن يتحدى الله!  يا للحماقة أن يجسر المخلوق التافه على أن يقف ضد مشورة القدير!  فمهما تكن مخططات الإنسان، ومهما بدت مشاريعه حكيمة، فإن مشورة الرب مُحقَّقة، ولا بد أن تتم في الوقت المُعيَّن.  لقد قال: «أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ.  الإِلَهُ وَلَيْسَ مِثْلِي...  رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي» (إشعياء46: 9، 10). وطوبى للإنسان الذي يُطيع مشورته بكل بساطة، فيعمل لله، ومع الله.

ولنتأمل بعضًا مما دونه لنا التاريخ المُقدَّس، لنتعلَّم ونعتبر ونهدأ:

كان شاول عدو داود واثقًا من وقوع فريسته في يده؛ لأن الزيفيين أخبروه بالمكان الذي أختفى فيه «وَكَانَ شَاوُلُ وَرِجَالُهُ يُحَاوِطُونَ دَاوُدَ وَرِجَالَهُ لِيَأْخُذُوهُمْ».  ولم يوجد في الظاهر رجاء يدل على إمكانية إفلات داود من أيديهم.  ولكن في هذه اللحظة الحرجة «جَاءَ رَسُولٌ إِلَى شَاوُلَ يَقُولُ: أَسْرِعْ وَاذْهَبْ لأَنَّ الْفِلِسْطِينِيِّينَ قَدِ اقْتَحَمُوا الأَرْضَ.  فَرَجَعَ شَاوُلُ عَنِ اتِّبَاعِ دَاوُدَ، وَذَهَبَ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ» (1صموئيل23: 26-28).  والتزم داود أن يحمد الله الذي خلَّصه من هذه الضيقة.

وكان جميع اليهود في زمن أستير في خطر الموت والهلاك، وأُرسلت الكتابات من الملك بيد السعاة إلى كل البلدان لإهلاك وقتل وإبادة جميع اليهود، من الغلام إلى الشيخ والأطفال والنساء في يوم واحد، وأُعِدت الخشبة ليُصلب عليها مُردخاي الأمين.  وكان العدو فرحًا ومتيقنًا من إتمام قصده الشرير، ولكننا نقرأ: «فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ طَارَ نَوْمُ الْمَلِكِ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُؤْتَى بِسِفْرِ تِذْكَارِ أَخْبَارِ الأَيَّامِ فَقُرِئَتْ أَمَامَ الْمَلِكِ» (أستير6).  واستخدم الله ليلة أرق لتحويل الحال بالتمام، وإبطال مشورة هامان.  و«مَنْ يَحْفُرُ حُفْرَةً يَسْقُطُ فِيهَا، وَمَنْ يُدَحْرِجُ حَجَرًا يَرْجِعُ عَلَيْهِ» (أمثال26: 27)، فعُلِّق هامان على ذات الخشبة التي أقامها.  «عِنْدَ الْمَسَاءِ يَبِيتُ الْبُكَاءُ، وَفِي الصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ» (مزمور30: 5).  والحزن وخوف الموت تغيَّرا إلى فرح وإلى يوم طيب لإرسال أنصبة من كل واحد إلى صاحبه (أستير9).  «فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ أَفْكَارٌ كَثِيرَةٌ، لَكِنْ مَشُورَةُ الرَّبِّ هِيَ تَثْبُتُ» (أمثال19: 21).

ولقد أبادت عثليا الشريرة جميع النسل الملكي لكي تُثبّت كرسيها، أما الله فقد استخدم يهوشبع بنت الملك فأخذت يوآش ابن أخزيا وسرقته مِن وسط بني الملك الذين قُتلوا وخبأته هو ومرضعته في مخدع.  ولما صار ملكًا أوقع على عثليا الشريرة القصاص حسب العدل «سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ» (تكوين9: 6؛ 2ملوك11: 20؛ 2أخبار22، 23).

وهيرودس الملك قتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم من ابن سنتين فما دون، لكي يكون على ثقة تامة مِن أن ملك اليهود الحقيقي بينهم، لكن «اَلسَّاكِنُ فِي السَّمَاوَاتِ يَضْحَكُ.  الرَّبُّ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» (مزمور2: 4).  فالله - حارس الصبي - استخدم مجوسًا مِن المشرق، ليُزودوا يوسف النجار بأشياء ثمينة مِن كنوزهم، وبعد ذلك أمر الرب يوسف قائلاً: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ» (متى2).  وهكذا أبطل الله مشورة هيرودس الخادعة الماكرة.  ونعلم من التاريخ أن هيرودس مات ميتة رهيبة مخيفة.  

وهذا يُحقق كلام الحكيم القائل: «لَيْسَ حِكْمَةٌ وَلاَ فِطْنَةٌ وَلاَ مَشُورَةٌ تُجَاهَ (ضد) الرَّبِّ» (أمثال21: 30)؛ فالرب يعمل كل شيء لإتمام قصده ضد غايات البشر المختلفة.  والنفس الواثقة تستريح على حقيقة أن مشورة الرب لن تنهزم؛ لذلك هي لا تخشى حكمة أعدائها أو فهمهم أو مكايدهم.  وما الذي يستطيع أن يفعله الإنسان لكي يؤذي من يحتمي تحت جناحي الرب؟  قال داود: «إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي.  إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذَلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ» (مزمور27: 3).  فلا العدد ولا العتاد هو الذي يكسب المعركة، بل نكسبها إذ يسير أمامنا إله خلاصنا.

وتلك كانت الثقة التي أظهرها الملك آسَا يوم حاصرته جيوش زارح الكوشي المليونية، حيث قيل «وَدَعَا آسَا الرَّبَّ إِلَهَهُ: أَيُّهَا الرَّبُّ، لَيْسَ فَرْقًا عِنْدَكَ أَنْ تُسَاعِدَ الْكَثِيرِينَ وَمَنْ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ.  فَسَاعِدْنَا أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُنَا لأَنَّنَا عَلَيْكَ اتَّكَلْنَا وَبِاسْمِكَ قَدُمْنَا عَلَى هَذَا الْجَيْشِ.  أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْتَ إِلَهُنَا.  لاَ يَقْوَ عَلَيْكَ إِنْسَانٌ» (2أخبار14: 11).  فلم يكن الأمر في نظر آسا متصلاً بقوة جحافل الأعداء، بل كانت المسألة مسألة قوة الله، وتفاهة مقدرة الإنسان العاجز الفاني «لاَ يَقْوَ عَلَيْكَ إِنْسَانٌ».  ويا لتفاهة الإنسان الطبيعي وافتقاره للقوة!  يا لهشاشيتة وعدم نفعه وهو في حالته الوضيعة كساقط ومائت!  هكذا كان الجيش العظيم في نظر آسا.  كان الأعداء والأجناد جميعهم لا شيء، بالقياس إلى اقتدار قوة الله الذي كان يقود جيش يهوذا وبنيامين.  وكانت النتيجة محققة إذ «ضَرَبَ الرَّبُّ الْكُوشِيِّينَ...  فَهَرَبَ الْكُوشِيُّونَ...  لأَنَّهُمُ انْكَسَرُوا أَمَامَ الرَّبِّ وَأَمَامَ جَيْشِهِ» (2أخبار14: 12، 13).

وأعلم يا صديقي المؤمن أن هذا الإله هو إِلهُنَا؛ إلهي وإلهك، ومهما أحاط بنا من الأخطار فإن «اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ.  عَوْنًا فِي الضِّيقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا» (مزمور46: 1).  وكيفما كانت الظروف والأحوال والأعداء، ترَّنم من قلبك، هادئًا مطمئنًا، بنغمة عالية وصادقة:

 

إن أصابَتني التَّجاربْ

                         وانتَفى عنّي الرَّفيقْ

 وأحاطَت بي المصَائِب

                         واختَفى عنّي الصديق

 فيسوُع الربُّ يبقى

                   دائمًا في رِفْقَتي

 وجُيوشٌ تتلقَّى

                   أمرَهُ في خِدمتي