يا ناصريُّ ... أنتَ غلّبتَ
تتبع “و. س. بولم” – في أحد كُتُبهِ – ما حدث للرومان الذين لم يخافوا الله، واضطهدوا المسيحيين، وأرسلوهم للموت، فقال:
“من بين ثلاثين مسؤولاً رومانيًا، فَقَدَ واحد منهم عقله، بعد ممارسته وحشية مُفرطة ضد بعض المؤمنين. بينما مسؤول آخر ذَبَحَه ابنه. وآخر أصابه العمى. وواحد مات غرقًا. وواحد تمَّ خنقه. وغيره مات يائسًا في الأَسر. وانتحر اثنان. وخمسة تمَّ اغتيالهم بواسطة ذويهم أو خدمهم. وخمسة آخرون ماتوا بطرق بائسة مُفجعة؛ إما أنهم قُتلوا بقسوة في إحدى المعارك، أو بعدما تمَّ أسرهم.”
ومن بين أولئك كان “الإمبراطور جوليان” (332-363م.)، والذي يُلقب “جوليان المرتد” (Julian The Apostate)، لأنه كان آخر إمبراطور وثني رفض اعتناق المسيحية التي كان عمه الإمبراطور قسطنطين الكبير قد جعلها الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. وأعلن “جوليان” - بعد اعتلائه العرش الروماني (361-363 م.) - تخليه عن المسيحية، وعودته إلى الوثنية، ومن ثم أعاد فتح المعابد الوثنية التي أمر قسطنطين بإغلاقها.
ولأن “جوليان” كان في الأصل مثقفًا وفيلسوفًا، فقد قاوم المسيحية بالكلمة. فكانت له محاورات، وخُطب، ورسائل، ومقالات فلسفية؛ حاول فيها أن يشرح الأسباب التي من أجلها ارتد عن المسيحية، وطعن في لاهوت المسيح، وشكَّك في أقواله وتعاليمه ومعجزاته، مُحاولاً إثبات أن الأناجيل يُناقض بعضها بعضًا، وأن أهم ما تتفق فيه هو أنها أبعد ما تكون عن العقل!!
ولقد اشتهر “جوليان المرتد” في أيام مجده وعنفوانه بتحدّيه لله. وقيل عنه أنه صوَّب - مرة، وبغضبٍ - خنجره إلى السماء مُتحدّيًا ابن الله، الذي عادة ما كان يدعوه: “الجليليّ” أو “الناصريّ”.
وفي سنة 363 ب. م. كانت الكنيسة في ضيقة شديدة جدًا، فلقد قصد “جوليان المرتد” أن يُعيد الديانة الوثنية القديمة إلى الإمبراطوري الرومانية، كسابق عهدها. ولكثرة بغضته للمسيح أراد أن يبني الهيكل في أورشليم، لكي يُكذِّب نبوة سَيِّدنا المعبود بخصوص الهيكل واليهود «هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا» (متى23: 38).
ولكن في الحرب التي نشبت بينه وبين الفرس - حسبما يقول التاريخ - حصل له جُرحٌ مميتٌ، وفي ساعة احتضاره رفع يده المُلطَّخة بدم نفسه - نحو السماء - صارخًا ومُقِرًّا ومعترفًا: “آاااه... لقد انتصرت أيها الجليليُّ”. وهكذا بطلُ قصده المخيف والردي.
وبالحق لقد غَلَبَ الرب، وسيغلب «لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيلبي2: 10، 11).
ولكن ماذا عن ما يحدث الآن من تمرد جماهيري وشعوبي على المسيح، من الملوك والرعاع على السواء؟!
المزمور الثاني يصف القادة الأشرار الذين ظنوا أنهم قادرون على مُقاومة الله ومسيحه بنجاح، وكاتب المزمور يُشير إلى أن الرب يضحك مُستهزئًا بهم «اَلسَّاكِنُ فِي السَّمَاوَاتِ يَضْحَكُ. الرَّبُّ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» (مزمور2: 4).
وهذا المزمور ينقسم إلى أربعة أقسام، كل قسم يتكون من ثلاث آيات:
1- هياج الأرض.. والتمرد على الملك (ع1-3).
2- ضحك السماء.. ومسح الملك (ع4-6).
3- القرار الأزلي.. ومُلك الملك (ع7-9).
4- الدمار الأبدي.. وأعداء الملك (ع10-12).
والمزمور يؤكِّد أن الله سيُنفذ قصده في ابنه ومسيحه، وسيؤسِّس مملكته، رغم مقاومة البشر الجاهلين، ولو كَرِهَ الكارهون. والخطر كل الخطر على مَن يُقاومه، والبركة كل البركة لمَن يتصالح مع هذا الملك ويخضع له، ويُملِّكه على قلبه من الآن، ليملك معه في المستقبل.
«فَالآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الاِبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ» (ع10-12).
«قَبِّلُوا الاِبْنَ»... أي تصالحوا معه، واخضعوا لسلطانه، وأعطوه حُبّكم وتقديركم. والمرادف للقول «قَبِّلُوا الاِبْنَ» في العهد الجديد هي العبارة «آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (أعمال16: 31)، لأن «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ» (يوحنا3: 36). وهذا الملك المرفوض، يظهر أمام الناس الآن، ليس كالمنتصر الجبار القادم ليضرب أعداءه، بل ليمدّ يده المثقوبة التي سُمِّرت فوق الصليب. إنه يبسط يد السلام. والروح القدس يقول: أيها الخطاة العصاة لا تقاوموه، ولا تنتظروا إلى ذلك اليوم حينما يتقد غضبه؛ بل منذ الآن اجثوا عند قدميه، «قَبِّلُوا الاِبْنَ»، قَبِّلُوا اليد المجروحة برهان خضوعكم وتسليمكم، برهان كَفَّكم عن مناهضته ومشاركة العالم الذي يرفضه. هذا يوم نعمته ورحمته، أما في يوم غضبه فسيكون الوقت قد فات وتبيدون من الطريق.
هذه هي رسالتنا المنطلقة إلى العالم كله؛ رسالة ستبقى إلى يوم غضبه، حين يتقد هذا العالم بنار دينونته العادلة الرهيبة. ولا يوجد مهرب منه، إلا إليه.
سَوفَ يأتي مِن عُلاهُ ليَدينَ العالمينْ
فَتَرَى الأشْرارَ صَرْعَى مِن مَرآهُ جَزِعينْ
يا إلهي يا إلهي حُكمُكَ العدلُ المُبينْ