ماركو محب نصيف، رأيته كثيرًا في مؤتمرات الشباب، جمعتنا أحاديث قليلة، لكنها كانت كافية لتعطيني انطباعًا أنني أمام شاب صغير السن لكنه يتمتع بنضوج ربما يفوق الأكبر منه سنًا. لم أرَه يومًا عابس الوجه؛ الابتسامة جزء من ملامح وجهه المشرقة، فلا تجد أمامك إلا أن تبتسم وأنت تستقبله. كان والده محقًا حينما شهد عنه في حفل الوداع بأنه كان سببًا من أسباب الفرح والبهجة في البيت وبين أصدقائه. يطل من عينيه ذكاء حاد يؤكد نُضج وعُمق شخصيته، بينما ملامحه البريئة تعطيك انطباعًا عن البساطة المتناهية التي كان يتمتع بها، هادئ الطباع لكنه مملوء بالحيوية والنشاط في ذات الوقت. لم اسمع يومًا في أيٍّ من المؤتمرات التي حضر معنا فيها أنه كان طرفًا في مشكلة أو نزاع مع أحد، رغم أن مؤتمرات الشباب يكثر فيها الشد والجذب، خصوصًا في وقت الرياضة. لكنني لم أسمع أنه تسبَّب في مشكلة رغم أنه كان مهتمًا بالرياضة اهتمامًا واضحًا.
فجأة وبلا مقدمات، انتشر الخبر الموجع للجميع؛ أن حياة ماركو انتهت في حادث سيارة مساء السبت 11 مايو 2013. فتحت صفحته الخاصة على موقع الفيسبوك فوجدته قبل ستة أشهر كان قد كتب على صفحته الخاصة كلمات الترنيمة التي تقول:
مثل بخار لا يطول فهو يقرِّب السماء
|
| العمــر يمضـــي ويــزول لكن في هذا لي العزاء
|
مساء يوم الأحد 12 مايو، وجدت صفحات التواصل الإجتماعي ممتلئة بصور لماركو مع تعليقات تعبِّر عن الحزن العميق الذي يعتصر القلوب. أصدقاؤه، مسلمين ومسيحيين، كتبوا عن ذكرياتهم معه، وتأثيره الحقيقي في حياتهم. فكتب مثلاً أستاذه أحمد عبد العظيم حماد يقول: “أشهد كم كنت أحب تلميذي النجيب ماركو، فقد كان بحق مثال للطالب الجاد المؤدب الخجول المثقف المتفتح المتسامح”. كما كتب صديقه أحمد عبد المطلب يقول: “ثالثة عمارة بلا طعم ولا روح بدون وجودك، حبك واحترامك وأخلاقك العالية في تعاملك مع الناس هي السبب الحقيقي في تأثرنا بغيابك”. وتساءل صديقه معتز: “ماذا فعلت يا ماركو حتى تأسر قلوبنا جميعًا؟”. وكتبت منار زميلته بالجامعة: “ماركو كان أطهر من أنه يعيش وسطينا”. ووصف صديقة محمد سليم شعوره أثناء الجنازة فقال: “كانت جنازة مهيبة؛ أعداد هائلة من البشر جاءت من إسكندرية لأسوان، الشارع أتقفل نزلوا بصور عملاقة ليه، و بدأت الترانيم. شعور غريب، شايف صورته بتضحك في أبهي أشكاله! دخلنا الكنيسة مكنش فيه بلاطة فاضية، بدأوا إلقاء الكلمات تباعًا لحد ما واحد من المتكلمين قال: أنا هاقرا عليكم بعض من الحاجات اللي على النت من زمايله. فوجئت بأسمي بيتقال "محمد سليم" وبدأ في قراءة شعر كنت كاتبه الصبح ليه على أكونته. ما أقدرش أوصف شعوري لحظتها... والده ألقى كلمة أبكت جميع من في القاعة. بدأت استوعب ماركو كان أطهر وأنضف وأعلى من إنه يعيش وسطنا ده سبب إستدعائه فوق. خلصت شغلك وخدمتنا كلنا وعلمتنا حاجات كتير؛ كان لازم تمشي عشان نعرف إنك مش هتتعوض”...
امتلأت صفحته بكلمات مؤثِّرة ومعبِّرة عن مدى التأثير الذي تركه في قلوب كل من تعامل معهم: أصدقاؤه الجامعة، وأصدقاؤه بالكنيسة، وأقاربه، ومعارفه.
أخي وأختي
هذه القصة المؤلمة، وهذا الحدث الجلل الذي أبكانا جميعًا وأدمى قلوبنا، قصد به الله دروسًا غنية لنا جميعًا، وأثق أنه بمجرد قراءتك لهذه القصة الحقيقية سيرسل الرب لقلبك رسائل خاصة جدًا. لكن هذا لا يمنع أن نتوقف أمام درسين فقط من الدروس الكثيرة التي نتعلمها من خلال هذا الأمر الصعب.
الدرس الأول: العمر قصير جدًا
هذا ما يعلمنا إياه الكتاب، وتؤكّده أحداث الحياة. “العمر قصير” ليست عظة تُقال وقت الأزمات، أو كلمات نقولها في الجنازات؛ إنما هي حقيقة يجب أن تبقى أمام عيوننا طوال الوقت. ماذا تفعل بحياتك؟ كيف تحياها؟ هل تترك أثرًا حقيقيًا في من تتعامل معهم؟
لم تدهشني ثقة الإخوة أن ماركو ذهب للسماء، إنما ما أدهشني وأذهلني أن أصدقاء الجامعة وزملاء الدراسة أيضًا أدركوا أن هذه هي النهاية الأكيدة لشاب مثل هذا الشاب الرائع. هل أنت واثق من نهايتك؟ أترك معك كلمات الكتاب المقدس «عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ، فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ. هُوَذَا جَعَلْتَ أَيَّامِي أَشْبَارًا، وَعُمْرِي كَلاَ شَيْءَ قُدَّامَكَ. إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ جُعِلَ. إِنَّمَا كَخَيَال يَتَمَشَّى الإِنْسَانُ.» (مزمور39: 5، 6).
الدرس الثاني: هكذا يكون التأثير
درس مهم زلزل قلوب كل من سمع بتأثير هذا الشاب: إنه قصة التأثير العجيب الذي تركه ماركو في قلوب الجميع، بدءًا من عميد الكلية ومرورًا بكل زملائه وأصدقائه ومعارفه. فالتأثير الحقيقي لا يتوقف على كلمات تُقال من فوق المنابر، أو عظات رنانة ذات كلمات مجلجلة. ماركو علمنا أن التأثير الحقيقي هو بالحياة الحقيقية البعيدة عن الزيف والرياء، الحياة الشاهدة دون كلام. علمنا أن الابتسامة النابعة من القلب أقوى في تأثيرها من ساعات وساعات في الكلام الذي يبدو في ظاهره بديعًا لكنه لا يحمل حياة في داخله. علمنا كيف تكون المحبة بلا رياء (رومية12: 9)، وأن المحبة لا تسقط أبدًا (1كورنثوس13: 8)، وأن تأثيرها أقوى من أي شيء آخر. عاش المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء (1تيموثاوس1: 5). فكان له تأثير عميق وعظيم على الجميع.
أخي وأختي.. لن تسمع عظة لماركو في يوم من الأيام، لكن لا يمكن لأحد أن يتجاهل أعظم عظة قدَّمها عن المسيح بحياته. لقد شعر أصدقائه بأن ماركو كان أطهر من أن يعيش بينهم؛ لقد كان كملح الأرض؛ يُعطَّش العالم للمسيح، وكنور للعالم، أضاء بقوة.
ليت هذه الدروس تضرب بجذورها في قلوبنا، وتترك أثرًا حقيقيًا في أعماقنا يجعل من كل قارئ نورًا حقيقيًا لمن حوله، وسببًا لمعرفة الكثيرين بحلاوة وعظمة الحياة المسيحية كما فعل ماركو محب.