قد تسمعها من مواطن متأفف من أوضاع البلاد والعباد، يحلم بيوم تنتهي فيه الطوابير ويمتلئ “جيبه” بالمال الوفير، تحاصره “حكومته” المنزلية بالطلبات والاحتياجات، و“حكومته” الخارجية بالمتاعب والإحباطات، حينها يتنهد ويرفع بصره لأعلى: “توب علينا من الأيام دي يا رب!

”أو قد تسمعها من مواطن آخر زميل له، يهرب من حر يومه، ويشكو كثرة مشاكله وهمومه، يلجأ في آخر ليله لسيجارته أو مكيفاته أو “ترامادوله”، يدمِّر صحته ويكتب بنفسه شهادة وفاته!  وحين تواجهه بخطر هذا على صحته وعلى صُحبته، يجاوبك بدون اكتراث: “ربنا يتوب علينا من الحاجات دي يا بيه!”

“توب علينا” والاختزال!

لا شك أن كلمة “التوبة” منتشرة بشكل كبير في شوارعنا، ومتأصلة بعمق في ثقافتنا، كشعب متدين بطبيعته.  فالتوبة هي مطمح الجميع، وهي شهادة التغيير الأخلاقي من الجميع.  فنسمع أن فلانًا “ربنا تاب عليه” من...  وهكذا ينقسم المجتمع إلى مجموعة من التائبين، ومجموعة أخرى من الطامحين أن يكونوا تائبين، ولكني هنا أتساءل: ما معنى التوبة الحقيقي؟!  وهل هي مجرد إبداء الأسف أو الاعتذار، أو التعهد بعدم تكرار الخطأ؟!  أم أن هناك معنى آخر للتوبة علينا أن نختبره وعليه أن يختبرنا؟!

الحقيقة أن البعض اختزل معنى التوبة في مجرد كلمات اعتذارية شفهية يُبدي فيها الإنسان بعض الأسف عن الخطإ الموجَّه نحو الله ونحو الناس.  والبعض الآخر اختزل معنى التوبة في بعض التعهدات المستقبلية التي يتعهد فيها الإنسان بعدم تكرار الخطأ مرة أخرى منه.  فكثيرًا ما نسمع الطفل الذي يختزل خطأه لوالدته قائلاً: “مش هاعمل كدا تاني!”  أو نسمع العامل يختزل تأخره وإهماله لرئيسه قائلاً: “آخر مرة يا باشمهندس!”  وكل ما سبق يقع في خانة الأعذار الكلامية أو “التأسفات” الشفهية أو التعهدات المستقبلية، وكلها بعيدة تمامًا عن معنى التوبة الحقيقية!

والكتاب المقدس يخبرنا عن كثيرين غاب عنهم معنى التوبة الحقيقي، واختزلوه في مجرد اعتذارات كلامية، فنقرأ عن فرعون بعد ضربة البَرَد الرهيبة أنه قال «أخْطَاتُ هَذِهِ الْمَرَّةَ.  الرَّبُّ هُوَ الْبَارُّ وَأنَا وَشَعْبِي الأشْرَارُ.  صَلِّيَا إلَى الرَّبِّ وَكَفَى حُدُوثُ رُعُودِ اللهِ وَالْبَرَدُ» (خروج9: 27-28).  وهنا لم يَتُب فرعون بل قسَّى قلبه، ورغم أنه اعتذر واعترف شفاهيًّا بشرِّه وشر شعبه، إلا إن هذا الاعتراف كان خارجيًّا ومزيفًا، وتحت ضغط؛ فزال بزوال الظرف الذي يضغطه ويخاف منه.

ونقرأ عن سيمون الساحر، بعد أن أخطأ خطأً رهيبًا في محاولته لشراء موهبة الروح القدس، أن بطرس قال له: «فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هَذَا وَاطْلُبْ إِلَى اللهِ عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ»، ولكنه بدل من أن يعمل بالنصيحة، اختزل التوبة في بعض التعهدات المستقبلية الفارغة: «اطْلُبَا أَنْتُمَا إِلَى الرَّبِّ مِنْ أَجْلِي لِكَيْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيَّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمَا» (أعمال8: 22، 24).

وبذلك نرى أن في الحالتين السابقتين، كان لسان حال فرعون وسيمون، هو اختزال التوبة في اعتذار كلامي أو تعهّد هُلامي، فهلك الاثنين غير التائبين قلبيًّا، رغم أن لسان حالهما ظاهريًّا كان: توب علينا يا رب!

“توب علينا” والأفكار الثلاثية!
فإن كانت التوبة الحقيقية ليست مجرد اعتذارات كلامية وتعهدات مستقبلية، فما هو معنى التوبة الحقيقي الذي يريده الله ويشفي من لوعة الإنسان؟!  الإجابة يلخِّصها لنا النبي إشعياء مصرحًا: «لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ وَإِلَى إِلَهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَان» (إشعياء55: 7). 

فالتوبة - حسب الكتاب المقدس - تكمن أساسًا في تغيير عميق للأفكار، ومراجعة فكرية لجذور الذهن، فيقتلع منها ما هو شرير، وينضِّج منها ما هو صالح.

إن أبرز الأفكار التي تحتاج للتغيير الجذري، تكمن في ثلاثة أمور رئيسية؛ أولها: أن تتغير أفكار الإنسان عن الله، فيدرك كم هو قدوس (1بطرس1: 16) وعظيم وصالح ومُحِب وجَوَّاد (يوحنا3: 16)، وثانيها: أن تتغير أفكاره عن الخطية، فيدرك كم هي خاطئة جدًّا (رومية7: 13)، وجارحة ومميتة ومدمرة (أمثال7: 26)، وثالثها أن تتغير أفكاره عن نفسه، فيدرك كم هو جائع ومحتاج وشقي وعريان (رؤيا3: 17) وأنه عطشان للعلاقة الحية مع الله، فإذا تغيرت هذه الأفكار الثلاثية الجذرية، جاءت على الفور التوبة الحقيقية القلبية.

“توب علينا” والرجوع للنفس!

ولكي نفهم هذه التغيرات الفكرية الثلاثية، فعلينا أن نلقي نظرة على أوضح أمثلة التوبة في العهد الجديد، والذي رواه لنا فم الرب يسوع الكريم؛ وهو مثل الابن الضال.  فهذا الابن الذي ترك أبيه، وكفر بوصايا أبيه وبمبادئه، لم يَعُد من ضلاله المُبين إلى أبيه المشتاق، إلا بعد أن تغيرت أفكاره الثلاثية تمامًا؛ فقد تغيرت أفكاره عن أبيه (ممثلاً لله)، وعن نفسه، وعن الخطية.

فنقرأ هذه الكلمات الخالدة «فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا!  أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ» (لوقا15: 17، 18).  فهنا فَطن الابن الضال أن أباه ليس هو الأب القاسي الصامت “البخيل” الذي يحرمه من الخير والسعادة، ولكنه الأب الصالح الكريم الذي يُمتِّع حتى أجراه بالأكل الشهي وفيضان الخير، لدرجة أنه يفيض عنهم الخبز، وبهذا غيَّر أفكاره عن أبيه، وتاب عن طلبته القديمة الأنانية الحمقاء: «أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ» (لوقا15: 12).

وتغيرت أفكاره عن خطيته، فلم تعُد مجرد حرية واستخدام طبيعي ومبكر لميراثه الأصيل، ولكن أصبحت خطيته بمثابة الجريمة نحو أبيه ونحو السماء: «أخطأت إلى السماء»، وهذا عامل جديد لم يلتفت إليه الابن، وهو يترك بيته هاربًا وفرحًا بحريته المزعومة.

وأخيرًا تغيَّرت أفكاره عن نفسه، فلم يبقَ هو الابن الذكي المُخطِّط الذي لا تقف أمامه مشكلة أو ضيقة، والذي لا يغلب في اتصالاته وعلاقاته، ولكنه وجد نفسه جائعًا ذليلاً، عاجزًا ومُحبَطًا: «أنا أهلك جوعًا»، بعد أن كان ابنًا مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا، مُحَاطًا بحماية الأب ورغدته.

ولما تغيرت هذه الأفكار الثلاثة، اتخذ القرار الصحيح بالرجوع لأبيه، واعترف له بكلمات رقيقة، ولكن قبل كل هذا تغيرت أفكاره عن أبيه وعن الخطية وعن نفسه، و«رجع إلى نفسه»، وهذا هو معنى التوبة الحقيقي المراد لنا، والذي به نختبر يوميًا روعة هذه الكلمات: “توب علينا يا رب!”

كنت فاكر إن التوبة قدامك

مجرد كلمات أسف وآهات اعتذار

وإن بِدهائي هاهرب من عقابك،

وأكمِّل طريقي زي بقية الأشرار

أتاريك عظيم وما يِضِّحكش عليك

بزيف الكلمات

وكاشف القلب وفاحص للأفكار

وقاري للنيَّات

وما ينفعكش غير توبة مُخلِصة

قبل التعهدات والاعترافات

غيَّر أفكاري عن نفسي وعن جرايمي

وعن شخصك المُحِب البار

وجدِّدني يوماتي في محضرك،

بتوبة تغسلني من فساد الأفكار