مش نحو الهدف

زادت أعداد مجلتنا المحبوبة ”نحو الهدف“ عن المائة والعشرين عددًا، وصار معلومًا لجميع قُرَّائها عبر السنوات الماضية، وفي كل الأجيال التي داومت على قراءتها، المغزى من الاسم الرائع الذي تحمله.  لكن هل فكَّر أحدنا في عكس هذا الاسم؟  تُرَى ما الشيء الذي نقول عنه إنه “مش نحو الهدف”؟

هل تعلم، أخي الشاب، أن أحد تعريفات الخطية في الكتاب المقدس أنها التعدي؟  يقول الرسول يوحنا في رسالته الأولى: «كُلُّ مَنْ يَفْعَلُ الْخَطِيَّةَ يَفْعَلُ التَّعَدِّيَ أَيْضًا.  وَالْخَطِيَّةُ هِيَ التَّعَدِّي» (1يوحنا3: 4).  وتأتي كلمة “التعدي” في الأصل اليوناني بمعنى: عدم فعل الصواب، أو عدم تطبيق ما يريده الله، كما تأتي في كثير من الترجمات بمعنى الفوضى، والجموح، والتجاوز.  وهذه المعاني كلها تأتي بنا لذات الفكرة أن الخطية هي تجاوز الهدف، أو عدم بلوغه.  فالفوضى معناها عدم وجود هدف أتحرك نحوه، فأجد نفسي أتحرك في كل الاتجاهات بلا معنى، أو أتجاوز الهدف الذي أنا موجود لأجله وهذه هي الخطية.

ويؤكد لنا الروح القدس الفكرة ذاتها عن الخطية في مزمور58 فيقول: «زَاغَ الأَشْرَارُ مِنَ الرَّحِمِ.  ضَلُّوا مِنَ الْبَطْنِ، مُتَكَلِّمِينَ كَذِبًا» (مزمور58: 3).  فالخطية هي الضلال والزيغان عن الهدف الحقيقي.  هي الحيدان عن الطريق الصحيح، والمستقيم.  ولتوضيح ذلك بمثل نذكر قول صموئيل النبي الذي قال: «وَأَمَّا أَنَا فَحَاشَا لِي أَنْ أُخْطِئَ إِلَى الرَّبِّ فَأَكُفَّ عَنِ الصَّلاَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ، بَلْ أُعَلِّمُكُمُ الطَّرِيقَ الصَّالِحَ الْمُسْتَقِيمَ» (1صموئيل12: 23).  فالنبي صموئيل يعرف هدفه جيدًا، ويدرك أن الغرض من وجوده نبيًّا وسط شعب الله في ذلك الوقت هو أن يُصَلِّي ويتضرع أمام الله لأجل هذا الشعب، ومجرد حيدانه عن هذا الهدف أو تجاوزه هو خطية.  من هنا يمكننا القول إن الخطية هي أن أسير في اتجاه عكس الهدف الحقيقي لحياتي، أو بمعنى آخر أن تكون حياتي “مش نحو الهدف”.

لهذا السبب نكتشف أن كل رجال الله الأمناء وأبطال الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، كان لديهم هدف واضح أمامهم طوال الوقت؛ فكانت حياتهم مثمرة، ومؤثرة جدًّا لأنهم عرفوا هدف حياتهم وساروا نحوه.  فنرى مثلاً الهدف واضحًا غاية الوضوح في حياة بولس الذي قال في رسالته لكنيسة فيلبي: «أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي3: 14).  لقد كان له هدفًا وغرضًا يسعى نحوه، وقد كشف لنا أكثر عن هذا الهدف بقوله في ذات الرسالة: «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ» (فيلبي3: 10).  فبالرغم من كل أبواب الخدمة المفتوحة أمام بولس الرسول، لم يكن هدفه الأساسي الخدمة إنما كان دائمًا يتطلع لمعرفة الرب أكثر، والتمتع بالشركة معه يومًا فيومًا.  كذلك الكتاب يضع أمامنا أمثلة كثيرة للعكس أيضًا، فنرى كثيرين ممن حادوا عن الهدف، وتجاوزوا الغرض من حياتهم على الأرض، وقد عاشوا حياة مزيفة، ومليئة بالسقطات والخطايا والأمور التي تدعو للأسف.

أما عن الوجه الآخر لما نقصده هنا فهو يخص المؤمنين الذين يجاهدون في حياتهم باحثين بإخلاص عن مشيئة الله وغرضه من وجودهم على الأرض.  يقول الرسول بولس: «وَأَيْضًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُجَاهِدُ، لاَ يُكَلَّلُ إِنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَانُونِيًّا» (2تيموثاوس2: 5).  فالمؤمن عليه ألا يجاهد فقط ويجتهد في حياة الصلاة والخدمة وإكرام الرب، إنما عليه أن يفعل ذلك بشكل صحيح، وبحسب مشيئة الله.  عليه أن يعرف الهدف من حياته في كل يوم، ويتمم مشيئة الله كما رسمها له صاحب اليد القديرة.  فما فائدة أن أضع أهدافًا لحياتي وأنجح في تحقيقها لكنها أهداف ثانوية وليست بحسب مشيئة الله؟

فقد يكون النجاح الزمني هدفًا، وهذا حسنٌ، إنما لو كان هو الهدف الوحيد لحياتي كمؤمن فهذا حتمًا أمرٌ خاطئ، وأنا بهذا الشكل لا أجاهد قانونيًا، وأكون بهذه الصورة قد حِدتُ عن الهدف الحقيقي لحياتي.  حتى الخدمة إن كانت هي الهدف الوحيد لحياتي، فهذا أمرٌ يحتاج لمراجعة، لأنها لو أصبحت هدفًا، لصار اهتمامي الوحيد هو نجاحها، وانتشارها، ووضوح الموهبة.  وقد تعطلني الخدمة عن التمتع برب الخدمة، بل قد تأخذني الخدمة من رب الخدمة.  لهذا كان الغرض السامي والراقي جدًّا في حياة بولس أن يعرفه، أن يتمتع بالشركة معه كل يوم، أن يزداد تعلّقًا وحبًّا بالمسيح في كل وقت، أن يجعل الأفراح سببًا في التمتع بالمسيح، والضيقات والمخاوف سببًا في ارتمائه في أحضانه؛ فتكون أيام الخدمة سببًا لإكرام اسمه، والأيام الخالية من الخدمة سببًا للجلوس معه والتمتع به وبحضرته.  هكذا يكون الغرض من الحياة، وهكذا يصبح الهدف هدفًا قانونيًّا بحسب مشيئة الله.

كان لدى داود النبي يومًا هدفًا لامعًا وعظيمًا بمقاييسه البشرية؛ أن يبني بيتًا للرب، بعد أن أكرمه الرب وأراحه من كل وجه.  إنما كانت مشيئة الله تختلف تمامًا عن مشيئة داود.  لقد أراد داود أن يصنع بيتًا عظيمًا للرب، بينما أراد الرب أن يصنع رجلاً عظيمًا، هو داود نفسه.  أراد داود أن يُظهِر غناه وإمكانياته العظيمة في ذلك البيت، بينما أراد الرب أن يُظهِر غنى نعمته وقدرته العظيمة في داود نفسه.  ولما تعلَّم داود الدرس يقول الكتاب: «فَدَخَلَ الْمَلِكُ دَاوُدُ وَجَلَسَ أَمَامَ الرَّبِّ» (2صموئيل7: 18).  الله لا يريد منك أكثر من ذلك، هو لا يريد مجهوداتك العظيمة، ولا يريدك أن تُظهِر قدراتك الخارقة في خدمته؛ هو يريدك أنت.  يريد أشواقك لمعرفته، يريدك أن تكتشف مدى احتياجك الشديد له في كل يوم.  يريد أن يُمَتِّعك كل يوم بمحبته وصلاحه من نحوك.  يريد أن يكشف لك عواطفه ونعمته الغنية من نحوك.

قال الرب: «لَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ» (أمثال8: 31).  هذا هو الهدف الذي يريدك الله أن تحيا لأجله.  وقتها ستعرف كيف تخدمه، وكيف تمجِّد اسمه، وكيف تُثمر بحياتك لمجده.  وقتها لن تضغطك الهموم، أو تأخذك المشاكل والغيوم.  بل ستختبر قول المرنم: «ضِيقٌ وَشِدَّةٌ أَصَابَانِي، أَمَّا وَصَايَاكَ فَهِيَ لَذَّاتِي» (مزمور119: 143).  ستدرك وقتها أن التلذذ بالرب هو غاية الحياة والهدف العظيم الذي يستحق أن تحيا لأجله: «وَتَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ» (مزمور37: 4).  وقتها لن تهتم بصورتك أمام الآخرين، ولن تشغلك صورة الآخرين أمامك.  بل ستكون صلاتك كل يوم وكل اليوم: «يَدَاكَ صَنَعَتَانِي وَأَنْشَأَتَانِي.  فَهِّمْنِي فَأَتَعَلَّمَ وَصَايَاكَ» (مزمور119: 73).

صديقي.. هل تتجه بحياتك “نحو الهدف”، أم تشعر أن اتجاه حياتك “مش نحو الهدف”؟