أعجبنى جدا ما قاله أحد الحكماء عن التواضع ،بأنه تلك الفضيلة التى تفقدها عندما تظن انك أمتلكتها .
أحبائي، إننا نعيش في عالم ممتلئ بالكبرياء والاعتداد بالذات، يعيش فيه الإنسان المسكين لِذَاتِهِ؛ فالجميع فعلاً يطلبون ما هو لأنفسهم، ويفتخر كل واحد بنفسه وبما له، منتفخًا متعاليًا على من حوله، ويرى أن كل من حوله لا شيء وهو الوحيد الشيء العظيم في هذا الكون!

لكن رغم سمات هذا العالم المتكبر والمتعجرف، تظهر فضيلة جميلة يتحلَّى بها القليلون، فيبدو اختلافهم واضحًا وسلوكهم رائعًا، إذ قد زَيَّنتهم هذه الفضيلة الربانية السماوية والتي هي “التواضع”.

الكارثة الأخلاقية الأولى
يومًا ما كان جميلاً يمشي بين حجارة النار!  وعلى جبل الله أقام!  لكنه انحدر إلى الهاوية؛ إلى أسافل الجُب (حزقيال28: 14).  إنه الكَروب المظلَّل، زُهرة بنت الصبح، والسبب كبرياء قلبه.  ويكشف الله العظيم السر عن سقوط هذا الملاك الذي أصبح الشيطان: «وأنت قُلتَ في قلبك: أصعد إلى السماوات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله» (إشعياء14: 13).

وبنفس جرثومة الكبرياء التي أسقطته أسقط الشيطان الجنس البشري، إذ نجح مع آدم وحواء خادعًا إياهما بالقول: «تصيران مثل الله»!  فصارا عُريانين!
وبمعصية آدم جُعِل الكثيرون خطاة، فسلك البشر بالكبرياء والتشامخ مع بعضهم وضد الله أيضًا، وفي تطاول قالوا: «كيف يعلم الله وهل عند العلي معرفة؟» (مزمور73: 11)، وأيضًا: «اُبعُد عَنَّا... مَن هو القدير حتى نعبده!»، فكان حُكم الله على كبرياء قلبهم: «في لحظة يهبطون إلى الهاوية» (أيوب21: 13 15)؛ فالله يقاوم المستكبرين!

ما هو الاتضاع؟

إذا أردت أن تعرف الاتضاع، فاذهب إلى المتضع العظيم وانظر ماذا فعل: «الذي إذ كان في صورة الله...  لكنه أخلى نفسه...  وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب» (فيلبي2: 6-8).  ففي ربنا يسوع المسيح المتجسد يظهر التواضع جليًّا
والاتضاع - ليس كما يظن البعض - أن تفكر في نفسك قليلاً، بل بالحري ألا تفكر في نفسك على الإطلاق!
والاتضاع الحقيقي يأتي من سُكنَى المسيح بالقلب وتعلُّم المسيح الذي قال: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب» (متى11: 29).
والاتضاع شيء وصِغر النفس شيْ آخر؛ الذي هو نوع من التشوُّهات النفسية التي قد تصيب الإنسان وتجعله يفكر في نفسه كثيرًا ولكن بطريقة سلبية خاطئة.

مظاهر الاتضاع
1. أن يكون الله هو كل شيء: ما أروع ما قاله الرب يسوع وقت معاناته قبل الصليب للآب: «إن أمكن فلتعبُر عني هذه الكأس.  ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت» (متى26: 39)، وحينما سأله اليهود عن روعة تعاليمه أجاب قائلاً: «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني» (يوحنا7: 16).

2. عدم الانشغال بـ“الأنا”: عندما نقرأ كلمات عظماء العالم نجدها تمتلئ بـ“أنا”؛ لاحظها في كلمات الإمبراطور نبوخذ نصر: «أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي» (دانيال4: 30)، وهذا ما ردده أيضًا الغني الغبي: «أقول لنفسي: يا نفس، لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة.  استريحي وكُلي واشربي وافرحي» (لوقا12: 19).  لكن الرسول بولس الذي صُلِبَت ذاته مع المسيح يقول مُتَّضِعًا: «أحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ» (غلاطية2: 20)، ومرةً أخرى يقول: «لستُ أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي...» (أعمال20: 24).  فيا للسمو!  فبعمل المسيح فينا يقول كل مِنَّا: «لكن بنعمة الله أنا ما أنا» (1كورنثوس15: 10).

3. أن يكون أخي أولا ًوقبلي: فإن كان منطق العالم المتكبِّر: أنا أولاً وليكن ما يكون مع الآخرين، لكن هناك المبدأ السماوي للمسيحي الحقيقي: «لا تنظروا كل واحد إلى ما هو لنفسه بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا» (فيلبي2: 4)، حتى إن الرسول بولس تجرَّأ وقال: «فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي؛ أنسبائي حسب الجسد» (رومية9: 3).  إنه فكر المسيح الذي لم يأتِ لأرضنا ليُخدَم بل ليَخدِم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين.  هل معاملاتنا وألفاظنا تحمل تعاليًا وتَكَبُّرًا على من حولنا، أم تُعلِن بحق عن اتضاعنا؟!

4. لفت أنظار الآخرين إلى المسيح:
جاء بعض اليهود ليسألوا يوحنا المعمدان عن هويته ومن هو، ورغم مركزه الرفيع الذي وصفه الرب به كأعظم المولودين من النساء (متى11: 11)، إلا إن المعمدان يُجيب: «أنا صوتُ صارخٍ في البرية: قَوِّموا طريق الرب...  يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لستُ بمستحق أن أحل سيور حذائه» (يوحنا1: 23، 27)، بل قال للجميع: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص».  عزيزي، هل حديثك يدور حول  نفسك، أم أنك تلفت أنظار سامعيك للأعظم وللسيد الحقيقي الرب يسوع المسيح؟!

بركات المتضعين ومتاعب المتكبرين


1. يذكر الحكيم سليمان سبعة أمور يبغضها الرب أولها: «عيون مُتَعَالية» (أمثال6: 16)، فإلهنا القدوس يبغض الكبرياء ويقاوم المستكبرين أيضًا.  لقد قال فرعون في كبريائه: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ حَتَّى أَسْمَعَ لِقَوْلِهِ» (خروج5: 2)، فطرحه الرب في البحر وغاص كالرصاص في مياه غامرة (خروج15: 1).  أحبائي، ما أشر الكبرياء!  لنتحذر منها في علاقتنا بإلهنا أو بمن حولنا، ولا سيما كأولاد مع والديهم؛ فـ«العين المستهزئة بأبيها والمحتقرة إطاعة أُمها تُقَوِّرها غِربان الوادي وتأكلها فراخ النسر» (أمثال30: 17).

2. أما المتواضعون فيعطيهم نعمة.  جاء العشَّار ووقف من بعيد منكسرًا أمام الرب طالبًا رحمة له كخاطئ، فيقول الكتاب إنه «نزل إلى بيته مُبَرَّرًا» (لوقا18: 13).  وما أروع اتضاع المُطَوَّبة مريم وهي تقول: «هوذا أنا أَمَة الرب»!  وما أجمل النعمة التي أخذتها: «لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدتِ نعمة عند الله» (لوقا1: 30، 38)!

3. يسكن الرب مع المتواضعين:
«في الموضع المرتفع المُقَدَّس أسكن ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيي روح المتواضعين» (إشعياء57: 15).

4. وما أبشع نهاية المتكبرين:
«وأنت يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية» (متى11: 23)!

عزيزي..
يقول الحكيم  سليمان: «قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح» (أمثال16: 18)، فهل تصلي معي أن يحفظني الرب وإياك في اتضاع أمامه متمثّلين بربنا يسوع المسيح الوديع والمتواضع الأعظم، بل وفي كل أمور حياتنا العملية نتواضع تحت يد إلهنا القوية فيرفعنا في حينه، متمّمين كلام الكتاب «غير مهتمين بالأمور العالية بل مُنقادين إلى المتضعين» (رومية12: 16)؟!  وأخيرًا ليُعطِنا الرب نعمة لتصبح فضيلة التواضع سِمة علاقاتنا بعضنا البعض: «بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم» (فيلبي2: 3).