بين الزمالك والأوبرا

بعد أن أنجزنا مهمتنا في السفارة الألمانية بالزمالك (أحد أحياء مدينة القاهرة)، أردنا التوجه - أنا وواحد من الإخوة كان برفقتي - إلى أقرب محطة مترو أنفاق؛ فركبنا تاكسي إلى الأوبرا، حيث أقرب مكان للمترو.  وفي اللحظة التي ركبنا فيها السيارة رحَّب بنا سائقها بطريقته، وذلك بأن “شغَّل” لنا عظة دينية ساخنة (لعل الله يرشدنا ويهدينا)، فقبلنا الهدية راضيين شاكرين.  كان صوت الكاسيت مزعجًا للغاية وكان الرجل يتكلم بكل حماسة وجدية عن يوم الساعة والدينونة الأبدية، حتى صاح بكل ما أوتي من قوة، وبأعلى صوت، صارخًا: “الحساب!!  العقاب!!”

وأخذ الرجل يكرر هاتين الكلمتين؛ فقلت لرفيقي مبتهجًا وبصوت عالٍ: “الحمد لله يا أخي “فلان” من أجل حبيبنا الذي دفع عَنَّا الحساب، وحمل عَنَّا العقاب”.  فاندهش السائق، ونظر إلينا بتعجب شديد، وهو يخفض الصوت قليلاً وهو يقول: “إنت بتهزَّر يا أستاذ؟”  وبهدوء قلت له: “أنا لا أعرف حضرتك علشان أهزَّر معاك، وبعدين موضوع مهم زي موضوع الحساب والعقاب ما حَدِّش يقدر يهزَّر فيه!”  فسألني (وبلغة جادة وكأنه يقف على حافة الهاوية أو قُل محيطًا هائجًا من البركان والغضب): “إنت حضرتك مش خايف من يوم الحساب؟”  فقلت وقلبي يرقص فرحًا: “في الحقيقة أنا وصديقي هذا كُنَّا خائفين مثلك في يوم من الأيام، لكن في يوم لا يُنسَى وجدنا مَن يحمل عَنَّا عقاب آثامنا وشرورنا.  لقد سَدَّد هذا الشخص البديع الحساب كاملاً ووفّاه تمامًا، وما عاد للخوف مكان في قلوبنا!”  قال السائق (وقد أغلق الصوت نهائيًا هذه المرة): “أراك جادًّا وواثقًا وغير خائف، فأنا لم أسمع أو أرى أن أحدًا من البشر عنده هذا اليقين.  وواضح إنك “مالي إيدك” منه، فقل لي: مَن هذا الذي دفع عنكما الحساب ورفع عنكما العقاب، عَلَّه يشفع فيَّ أنا أيضًا، كما شفع فيكما!”

ولأن المسافة من الزمالك للأوبرا تُقطَع في مدة لا تزيد عن خمس دقائق، ولأن الحديث عن هذا الشخص العجيب، الذي حمل عقاب خطايانا حديث حلو ممتد لا ينتهي، أخذ السائق أقصى اليمين بالقرب من محطة مترو الأوبرا، وركن السيارة بعد أن أطفأ محركها، وقال لي: “أنا لن أتركك اليوم إن لم تحكِ لي عن هذا الفادي والهادي الذي يحمل العقاب ويسدد الحساب!”

عزيزي وعزيزتي...

بكل فخر بنعمة الله، وبرأس مرفوعة تنطح السحاب، بدأنا الحديث عن الشخص الأبرع جمالاً من كل بني البشر.  وبمجرد الخوض في الحديث عنه، وكأنك فتحت قنينة ثمينة تحوي أغلى العطور وأندرها، ففاح عبيرها وعبَّق المكان.  فماذا نقول عن ميلاده العذراوي، عندما جاء إلى العالم بطريقة عجيبة وفريدة، لم يأتِ أحد مثله، لا قبله ولا بعده؟!  وماذا نقول عن أيام صباه، لما كانت له اثنتا عشرة سنة، عندما كان يجلس في الهيكل بين المعلمين يسمعهم ويسألهم وكل الذين سمعوه بُهِتوا من فهمه وأجوبته؟!  وماذا نقول عن حياة طاهرة عَطِرة خالية من الشوائب والعيوب، أدهشت الملائكة والشياطين، واعترف بكمالها الأحباء والأعداء؛ حياة مُمَيَّزة ممتلئة بالجلال والجمال؟!  ماذا نقول عن تعليمه الذي شهد عنه الأعداء قائلين: «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» (يوحنا7: 46)؟!  ماذا نقول عن أسمائه، وصفاته، وتعليمه، ومعجزاته، وأمجاده؟!  ماذا نقول عن حياته، وموته، وقيامته، وصعوده، ومجيئه الثاني الذي وعد به؟!  الحديث يطول ويطول عن حبيب القلب ومعبوده.

أُعجِب السائق بهذا الشخص العظيم أيما إعجاب، وسأل: “أين أجد الحديث عن سيرة سيدي المسيح؟”  فقلت له: “تجد هذه السيرة المُقَدَّسة في الكتاب المقدس.”  وقبل أن يودعنا الرجل قال لنا: “لن أنسى ما حييت هذا اليوم”.  وبأدب شديد طلب مِنَّا أن ندعو له حتى يأتي الوقت الذي يدخل من هذا الباب، وينعم فيه بالسلام والأمان، ولا يُرهِبه قبر أوعذاب ويحيا بلا خوف من يوم العقاب والحساب.

هذه كانت قصة السائق..   لكن ماذا عنك أنت أيها القارئ المسيحي العزيز؟!

هل تعرف المسيح معرفة حقيقية؟  أنا أعرف أنك اعتمدت باسمه، وتصلي في استحقاقات اسمه، وتغير على اسمه، وللأسف قد تحلف أحيانا باسمه.  لكن سؤالي هو: هل تعرفه عن قُرب؟  هل صار مُخَلِّصك الشخصي؟  وسلامك الشخصي؟  هل هو حبيبك وصديقك؟  هل تمشي معه ويمشي معك؟  هل لا تخجل منه في كل ما تفكر وتقول وتفعل؟  أم لا زلت مرعوبًا مذعورًا من يوم الدينونة القادم؟!

إن المسيح لا يزال يحبك وها هو يقرع باب قلبك؛ فهل تفتح له؟  إنه الفادي «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ.  الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ».  هل تقبل ذبيحته وكفارته وعمل نعمته؟!  فتنشد مع الرسول بولس قائلاً: «إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (رومية8: 1)، ومع من رنَّم قائلاً:

فخلاصنا يقين         وسلامنا متين
ومقامنا سَمَا          بالدم الذكي الثمين.