كانت أشعة الشمس الحارقة تنتشر في كل أركان مجمَّع الهايكستب الخاص بالقوات المسلحة، حتى كادت أن تلسع رأسي، أنا وكثيرين معي، إذ كنت في انتظار استخراج تصريح السفر الخاص بي للسفر مع زوجتي خارج مصر. كانت الدقائق تمر طويلة كالساعات بسبب الملل وطول الانتظار، ولم يكسر حِدَّتها ومللها إلا لقائي بذلك الشيخ الوقور صاحب الستين عامًا. تجاذبنا أطراف الحديث لقتل ذلك الوقت الممل جدًا تحت أشعة الشمس الحامية.
أثناء الحديث الذي دار بيننا، قال ذلك الشيخ الوقور جملةً توقفت أمامها كثيرًا، رغم أنني ربما سمعتها مرارًا، لكن كان لها في تلك اللحظة وقعًا غريبًا على مسامعي، وحملت إليَّ غموض دفين، أو ربما درسًا بعد خبرة سنين قضاها ذلك الرجل في الدنيا. كلماته كانت تحمل تلخيصًا لشعور الكثيرين، أو ربما وصفًا لمشكلة يعاني منها الإنسان عامة، والمصري خاصة. وجدته بحنان أبٍ يربت عل كتفي، ربما محاولاً تهدئة أعصابي من الغضب المرتسم على وجهي بسبب طول الإنتظار، وإحساسي بإهدار وقتي الذي أحسبه ضائعًا في مثل هذه المواقف، ولا فائدة منه. بادرني ذلك الشيخ الوقور بالقول: “يا ابني أؤكد لك أنه مهما طال العمر بك أو قصر، سواء سافرت للعيش في الخارج أو بقيت هنا، إذا أرتفع وضعك المادي أو انخفض، سواء علا مستواك الإجتماعي أو دنا، فأنت مجرد ورقة. نعم، كل إنسانٍ منا ما هو إلا مجرد ورقة، يركض ليلاً ونهارًا، ويكافح طوال عمره حتى يحصل عليها!! فلا تستعجل، حتمًا ستحصل عليها.”
نظرت إليه بنظرات مملؤة بمزيج من الدهشة، والتساؤل، وعدم الفهم. ثم طلبت منه إيضاحًا أكثر، فاستطرد قائلاً:“أنت تدخل العالم بورقة يسمونها شهادة الميلاد. وتدخل المدرسة بأوراق يسمونها ملف التقديم. ثم تتخرج بعد عشرات السنوات وفي يدك ورقة هي شهادة التخرج. تثبت زواجك بورقة صغيرة اسمها وثيقة الزواج. تسافر خارج البلاد بورقة هي تصريح السفر. وبعد كل هذا التعب، وكل هذه الضغوط، والركض خلف أهدافٍ زائفة، وحياة كلها عرق وتعب ومرض وضغوط، تنتهي حياتك بورقة هي شهادة الوفاة. أي إنسان على وجه الأرض هو في نظر الحكومات والمؤسسات مجرد ورقة، إذا ضاعت هذه الورقة، فلا قيمة لهذا الإنسان، لا وجود له، لا إثبات لكيانه، ولا تأثير لحياته!!”
تطلّعت من جديد إليه، وأنا مذهول مما قاله للتو، وظلت كلماته تلازمني طول طريق عودتي إلى المنزل، حتى إنني أذكر جيدًا كيف أمسكت بتصريح السفر بكلتا يديَّ كل الطريق، خوفًا من ضياعه، ولحظتها أفقد فرصتي في السفر مع زوجتي كما وعدتها!
أخي.. أختي
قد تكون في نظر الناس مجرد ورقة. ربما تكون مجرد رقم في وسط العالم من حولك. ربما تشعر بعدم القيمة، والفراغ الرهيب الذي يملأ قلبك. وربما تعاني من الشعور بالنقص، وصغر النفس بسبب معاملة الآخرين لك.
لكنني دعني أشاركك بأمر غاية في الأهمية؛ أنت لست كذلك بالنسبة لله، أنت لست مجرد رقم، لست ورقة لو ضاعت ضاع معها كل أمرٍ يخصك، وكل قيمة لك. أنت غالٍ جدًا على قلب الله. اسمع الله يقول لك «دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي... إِذْ صِرْتَ عَزِيزًا فِي عَيْنَيَّ مُكَرَّمًا، وَأَنَا قَدْ أَحْبَبْتُكَ» (إشعياء43: 1، 4). بل إن الكتاب المقدس يؤكِّد لنا أن شعور رؤوسنا محصاة، أي مُرقَّمة (متى10: 30)، فكل شعرة في رأسك لها رقم خاص. خلقك الله مُمَيَّزًا جدًا، بصمة أصبعك لا يملكها سواك، وهكذا بصمة عينيك وصوتك... الخ. ولأنك غالٍ جدًا في نظر الله، فقد دفع فيك أغلى ثمن؛ فمكتوب أننا أُشتُرينا بثمن (1كورنثوس6: 20). أعظم دليل على محبة الله لك بشكل خاص جدًا، هو صليب المسيح؛ الذي فيه قدَّم نفسه لأجلك، وهو يعرف كل ما فيك ويعلم كل شيء عنك، يعرف شكلك، وأفكارك، وأفعالك. يعرف شكوكك، يكشف قلبك، ويدرك رداءة قلبك وقلبي. ومع كل هذا جاء خصيصًا لأجلك، وقدَّم ذاته بديلاً عنك. وحتى ما تشعر به الآن من إحباط وفشل وضيق. هو يعرفه جيدًا، ويرسل لك هذه الكلمات حتى يؤكِّد لك أنك غالٍ جدًا عليه، وأنه يبحث عنك، ولا يفرط فيك. نعم أنت لست رقمًا بالنسبة له، أو ورقة ربما تحترق أو تُلقى على الأرض، بل أنت إنسان لك قيمتك، ومعروف بإسمك لديه.
المسيح لا يريد منك إلا أن تعطيه قلبك حتى يملؤه بالراحة والسعادة والسلام. صدّقني هذه ليست شعارات جوفاء، أو كلمات يجب علينا أن نقولها، إنما هي حقيقة تخسر كثيرًا إن لم تؤمن بها، وتكسب أيما مكسب إذا اقتنعت بها.
فهل تأتي إليه الآن وتتمتع بمحبته واهتمامه الشخصي بك؟