كان يبدأ في وقت مبكر جدًا، عادة قبل طلوع الفجر، يجوب شوارع سيدني. كلّ صباح يتّجه إلى منطقة مختلفة. كان يتوجه - على حد قوله - حيثما يقوده الله. كان رجلاً ضئيل الحجم، ضعيف البنية، ذو شعر أشيب، يرتدي قبّعة رمادية وبذلة عمال زرقاء اللون، يبدو وكأنّه من جيل آخر.
أثناء تجواله في الشوارع، كان بين الحين والآخر ينحني ويكتب بطباشير على الرصيف أو الإسفلت كلمة «الأبدية». كان يرسمها بخط كبير ودقيق، ثم يسير حوالي مئة متر ويعود يكتب نفس الكلمة مرة أخرى. كلمة واحدة بسيطة ليس أكثر. ظل هذا الرجل يفعل هذا الأمر لمدة 37 سنة! فكتب تلك الكلمة حوالي نصف مليون مرة.
لم يكن يميل لعمل أي شيء بصورة علنية أو وسط جمهور من الناس. اعتبر أن أسلوبه العجيب في الكرازة هو مهمة عليه أن يقوم بها بكل جدية.
كان هذا الأمر مثار جدل وحيرة محرري الصحف في سيدني لعشرة أعوام وهم يتساءلون عمن وراء هذه الكتابة. كثيرون ذهبوا إلى مكاتب الصحفيين وادعى كل منهم أنه الكاتب، بينما ظل الكاتب الحقيقي “آرثر ستيسArthur Stace” مختفيا عن الأنظار.
عُرفت القصة كاملاً عام 1956 حين كشف ليزلي طومسون سر هذا الرجل. وليزلي هو راعي الكنيسة التي كان آرثر ستيس يعمل فيها كعامل نظافة. لاحظ ليزلي يومًا أن ستيس أخذ طباشيرته وبدأ يكتب على الرصيف كلمته المشهورة بخطه الممَّيز، معتقدًا أن لا أحد يراه، حتى فاجأه ليزلي بسؤاله: أنت إذا السيد أبدية (وهو الاسم الذي أُطلق عليه قبل أن يعرفه الناس)؟! كتب ليزلي بعدها نبذة يروي فيها القصة العجيبة، ونشرت القصة كاملة في الصنداي تلغراف.
ولد آرثر ستيس في أحد الأحياء الفقيرة سنة 1884 من أبوين مستعبدين لشرب الخمر، له أخوين وأختين قضوا معظم حياتهم في السجن. كان ستيس ينام على الأرض على فراش بسيط، وكثيرًا ما اضطر لأن يدبِّر أموره بنفسه. كان يسرق اللبن من أمام أبواب المنازل، ويلتقط فضلات الطعام من صناديق القمامة، ويسرق الحلوى من المحلات. لم يحظَ بالتعليم في المدارس، وفي عمر 12 سنة كان من رواد الشوارع. عندما بلغ 14 سنة اشتغل كعامل مناجم و أنفق أول راتب له في الكحوليات. أُلقي في إصلاحية للأحداث لأول مرة حين كان عمره 15 سنة. عندما كان عمره 21 سنة كان يقوم بتوزيع الخمر، واختلط بعصابة لسرقة منازل.
أثناء الحرب العالمية الأولى، التحق بالكتيبة التاسعة عشر حيث ذهب لفرنسا، وعاد من هناك بإصابة في عينه جعلته نصف أعمى، ومع ذلك استمر على إدمانه الخمر. حين كان ضابط الشرطة يستجوبه ويقول له “ألا تعلم أنه في قدرتي أن أحبسك ولي "القدرة" أن أطلق سراحك”. قال أرثر : “كانت كلمة "قدرة" ترن في أذني، وتمنيت أن تكون لي القدرة على الإقلاع عن شرب الخمر. توسلت إلى الضابط أن يطلق سراحي فشتمني وطردني من أمامه”.
كانت تلك الفترة كئيبة لسكير تعس وعاطل، يرتدي ملابس رثة ليس له ملاذ ولا قوت. كان بعض الرجال يسيرون أمام قسم الشرطة الذي خرج منه، وسمعهم يقولون إن الكنيسة التي في شارع برودواي ستقدِّم وجبة ومشروب مجانًا. في ذلك الوقت كان يمكن للشخص أن يفعل أي شيء في مقابل وجبة مجانية، إذ كانت تعتبر فرصة ثمينة يجب أن تُغتنم.
في الكنيسة، كان هناك اجتماع حضره 300 شخصًا. كان عليهم أن يسمعوا الخدمة قبل تقديم الوجبات. كان في المقاعد الأمامية حوالي 6 أفراد جالسين بثياب نظيفة، ينصتون في خشوع، ويبدو الفارق كبير جدًا بين مظهرهم ومظهر أغلب الحاضرين، الذين كانوا معظمهم من المشرَّدين والسكارى. مال ستيس على واحد بجواره كان مشهورًا بإجرامه وقال له: “من هؤلاء الذين يلبسون ملابس نظيفة وأنيقة ويبدو عليهم الرصانة والإتزان؟” أجابه “أظن أنهم المسيحيون الذين يسمونهم "مؤمنين"“. فقال ستيس: “أنظر إليهم وانظر إلينا! أريد أن أذهب وأسألهم كيف صاروا هكذا!”.
بعد انتهاء الاجتماع جثا على ركبتيه في حديقة فيكتوريان بارك، وقَبِلَ الرب يسوع مخلِّصًا شخصيًا له.
قال لنفسه: “الآن، الخمر من طريق وأنا من طريق آخر، حتى لو كلفني الأمر أن أشتغل بعمل بسيط وبأجر أقل”. اشتغل بالفعل في عمل متواضع نصف الوقت.
استمع ستيس مرة عظة كرازية عن الأبدية، خرج بعدها يقول: “ليتني أستطيع أن أصرخ وأقول: "الأبدية.. الأبدية.. الأبدية" في كل شوارع سيدني. أتمنى أن أوصل هذه الكلمة المصيرية إلى قلب كل إنسان في المدينة”. كانت تلك الكلمة ترنّ في أعماق قلب وذهن آرثر ستيس. ظل يبكي كثيرًا، وشعر برغبة مُلِحة في أعماقه أن يخرج قطعة الطباشير من جيبه وينحني ويكتب تلك الكلمة. الطريف في الأمر أنه حينها لم يكن يستطيع أن يتهجأ حروف اسمه إذ لم يتعلم القراءة والكتابة. رغم ذلك كان يرسم الكلمة بخط في غاية الدقة والجمال. قال في حديثه مع توم أن أصدقاءه طالما مدحوا قدرته على رسم الحروف بصورة أنيقة.
بعد حوالي 9 سنوات بدأ يكتب كلمات أخرى مثل: “إسمع لصوت الله” وبعدها بسنوات كتب “الله أم الخطية”، ثم “الله أولاً”. لكنه أشتهر بالأكثر بكلمة «الأبدية».
كان يستيقظ في الرابعة صباحًا، ويقضي وقتًا في الصلاة، ثم يتناول الإفطار ويخرج. كان يقول إن الله يشغله أثناء الصلاة بالمنطقة التي يتوجه إليها ليكتب عظته ذات الكلمة واحدة.
مات أرثر ستيس في عمر الثالثة والثمانين، في دور المسنين في 30 يولية 1967. ترك الأرض وذهب إلى الأبدية، تاركًا وراءه عظة متكررة من كلمة واحدة، ملأت شوراع سيدني ما يقرب من ثلاثة عقود. “الأبدية” وحدها ستكشف ما فعلته كلمة “الأبدية” التي ملأت شوارع المدينة، والتي أصبحت جزءًا من تراثها، حتى أنها كُتبت، في وقت ما، بأضواء الزينة الكهربائية بحجم كبير على جسر سيدني هاربر، ليقرأها ويتأمل فيها كل من يمرّ تحت ذلك الجسر الكبير.
عزيزي الشاب.. ربما تقول أن أسلوب كرازة آرثر ستيس طريف وغريب، نعم. ربما أسلوب كهذا كان ملائمًا ومؤثِّرًا في زمن معين وثقافة معينة، لكن المغزى من هذه القصة يكمن في الغيرة المقدسة التي ملأت قلب هذا الرجل البسيط الذي لم يكن واعظًا مفوَّهًا ولا كاتبًا موهوبًا، بل كان له قلب ملتهب على خلاص النفوس الضائعة. رأى الأمور على حقيقتها: أن البؤس الحقيقي ليس في الزمان، بل في الذهاب إلى مصير أبدي تعس إذا نجح الشيطان أن يشغل ضحاياه من مختلف الطبقات والمستويات بأمور دنيوية كي لا يفكروا في الأبدية.
لقد فعل آرثر ما في مقدوره أن يفعله من أجل النفوس، فماذا نفعل نحن من أجل النفوس التي حولنا؟
ستظل رسالة الإنجيل في محتواها ثابتة لا تتغير، وطريق الخلاص لا يتطور؛ إنما طريقة توصيل الرسالة قد تكون بأسلوب غير مألوف. صحيح أن الرب يستخدم قاعات الكنائس والنبذ الكرازية والكتب الروحية والإذاعات المسيحية والبرامج التلفزيونية ومواقع الإنترنت وشبكات التواصل الإجتماعي والتليفون والمقابلة الشخصية... الخ؛ لكن عند الرب ألف طريقة وطريقة بها يوقظ قلوب النفوس. والعبرة ليست في الأسلوب سواء كان متَّبعًا أم غريبًا، العبرة بطاعة صوت الرب الذي يعرف كيف يستخدمنا كيفما يشاء، سواء كانت الخدمة علنًا أم في الخفاء