تأملنا سابقًا عن المطوبة مريم وكيف كانت تسأل للمعرفة، ورأينا اتضاعها، وإيمانها، وخضوعها لمشيئة الله، وكيف كانت في شركة مع المؤمنات. والآن بمعونة الرب نتأمل في التسبيحة التي قالتها:
من شدة فرحتها بما سمعته من الملاك وأليصابات نسيبتها، فتحت فمها وترنَّمت بتسبيحة جميلة، منقادة بالروح القدس، متأثرة بما حدث لها، ممتلئة من الإيمان. فيها تعظم الرب وتبتهج بالله مخلِّصها الذي ملأ كيانها وضبط فكرها وحرَّك لسانها. ونرى اتضاعها، وأن ما يشغلها هو مجد الله وإتمام مواعيده (لوقا1: 46- 55).
الترنيم دلالة على الفرح «أمسرور أحد؟ فليرتل» (يعقوب5: 13) ، وأيضًا ذبيحة: «فلنقدم به في كل حين لله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه» (عبرانيين13: 15).
ونلاحظ أن الأفعال التي استخدمتها، جاءت في صيغة الماضي، مع أن المسيح لم يكن قد وُلد بعد، وخلاصه لم يكن قد ظهر للعالم؛ لكنها كانت تتكلم بالنبوة.
هناك أوجه تشابه مع نشيد حنة وهي تشكر الرب بعد أن منحها صموئيل في ظروف غير عادية (1صموئيل2: 1-10)، وهذا يرينا معرفتها بالمكتوب.
تنقسم التسبيحة إلى ثلاثة أقسام:
ع 46-50: تتحدث عن نعمة الله التي غمرتها، وعن فرحتها، وأنها صارت مطوبة من جميع الأجيال، وأن رحمته تمتد إلى الأجيال القادمة لأتقيائه.
ع51- 53: الله القدير يغير كل شيء رأسًا على عقب؛ فالأعزاء ينزلون عن كراسيهم ويرفع المتضعين، الجياع يشبعون خبزًا والأغنياء يُصرفون فارغين.
ع 54، 55: تذكُّر الله لمواعيده الخاصة بشعبه.
وعندما نتأمل في كلمات هذه التسبيحة نجد الكثير من الفوائد الروحية لنا:
فقالت مريم: تعظم نفسي الرب: لقد أخذت تسكب تشكّراتها من قلب ممتلئ بالفرح فائضًا بالحمد وتعظيم الرب.
وتبتهج روحي بالله مخلصي: تعلن أن مصدر ابتهاجها هو الله نفسه وليس أمور الأرض، وتعلن أيضًا أن الله مخلِّصها.
لأنه نظر إلى إتضاع أمته: كانت مريم تفكِّر في حالتها المتضعة والفقيرة، بالرغم أنها من نسل الملك داود، لكنها كانت خاضعة لمشيئته، مُعلنة أنها أَمَته.
فقد الشيطان مركزه وطُرد من حضرة الله بسبب الكبرياء، لكن الإتضاع له تقدير عظيم عند الله، كما هو مكتوب: «إلى هذا أنظر: إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي» (إشعياء66: 2). لقد عرفت أن الطريق الذي به تصل إلى مراحم الله وتأخذ عطاياه هو الإتضاع.
ونلاحظ أنها لم تقل: إن الله نظر إلى صلواتها أو أصوامها أو عشورها أو... بل إلى إتضاعها. لذلك رفعها، والرفعة التي تتكلم عنها هي أن جميع الأجيال تطوبها.
فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني: وكلمة “طوبى” معناها “يالسعادة”، ومريم تستحق التطويب لأنها صارت أُمًا للمسيح. لكن لا يُقدَّم لها السجود، لأن السجود للرب فقط كما هو مكتوب: «للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» (متى4: 10).
في مرة، رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت للرب: «طوبى للبطن الذي حملك والثديين الذين رضعتهما. أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه» (لوقا11: 27، 28). فمريم مطوَّبة وكذلك كل من يسمع كلام الله ويحفظه.
لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس: تسبِّح الله علي قدرته التي صارت لحسابها، إذ صنع بها عظائم؛ فصارت مطوَّبة من جميع الأجيال. لقد نسبت كل شيء لصلاح الله.
ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه: لقد لمست مراحم الرب عليها بصفة شخصية، والآن تترنم بمراحم الرب للذين يتقونه إلى جيل الأجيال، أى إلى آخر الأجيال، عند نهاية الدهور. لقد فكَّرت وتطلَّعت إلى الأجيال الكثيرة القادمة التي ستتمتع برحمة الله من خلال إيمانهم بالمسيح.
صنع قوة بذراعه. شتت المستكبرين بفكر قلوبهم: كانت تثق في قوة الله وذراعه القديرة، والتي من خلالها شتَّت المستكبرين بفِكر قلوبهم. كانت أفكارها تناسب حالة الأتقياء في شعب الله الذين كانوا ينتظرون المسيح لينقذهم من ظلم أعدائهم، ويباركهم بالخير والراحة على الأرض.
أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين: كانت تثق أن الله قادر على تغيير الأوضاع، فينزل الأعزاء الأشرارعن الكراسي مثل هامان الردئ، ويرفع المتضعين الأتقياء مثل مردخاى. واختبرت مريم “رفع المتضعين”؛ فلقد كانت من الفقراء والمتضعين لكن رفعها وصارت مباركة ومطوبة.
أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين: رأت بالإيمان أن الله يغير كل شيء، فالجياع روحيًا يُشبعون، والأغنياء في أعين أنفسهم يصرفهم فارغين.
الإنسان عامة جائع روحيًا، لكنه بالأسف يحاول أن يُشبِع نفسه بأمور هذا العالم الزائلة، مثل الثروة والشهرة والعمل والملاهي، لكنه لا يشبع. أما من يشعر بحاجته للرب؛ فإنه يذهب إليه ويشبع. قال الرب: «طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يُشبعون» (متى5: 6) ، أما الذي يقول: «إني أنا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء»، فهو الذي لا يعرف حقيقة حالته، لذلك فهو «شقي وبئس وفقير وأعمى وعريان» (رؤيا3: 17). هؤلاء لا يأخذون شيئًا من الله، ولذلك يصرفهم فارغين.
عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة: كانت تثق في معية الرب لشعبه وتعضيده، وأيضا مراحمه لهم. لقد تذكرت كيف رحم الرب إبراهيم من عبادة الأوثان، ودعاه وصنع معه ومع إسحاق ويعقوب عهدًا، وكان هذا رحمة عظيمة. وتذكرت كيف كان بنو إسرائيل في أرض مصر عبيدًا وفقراء، وفي نفس الوقت عبدوا الأوثان (حزقيال20: 7، 8). لكن عندما صرخوا له، سمع أنينهم، وأخرجهم من أرض مصر بيد قوية وذراع رفيعة، وكان هذا رحمة عظيمة لهم. وكانت حالة الشعب وقت ولادة المسيح منحطَّة ومخزية، لكن ذكرهم الله في رحمته المتمثِّلة في مجيء المسيح لخلاصهم. وكما رحم إبراهيم قديمًا جعل شعبه موضوع رحمته.
كما كلم آبائنا. لإبراهيم ونسله إلى الأبد: نراها تتمسك بمواعيد الله التي قالها للآباء، وتنتظر تحقيقها لنسل إبراهيم.
ياليتنا نسبح ونعظم الرب دائمًا، ونثق في قدرته العظيمة التي هي لحساب أتقيائه، ونعلم أنه هو قادر على تغيير الأوضاع، وعندما نعيش بالإتضاع سيرفعنا في حينه، وأيضَا نُمسك بمواعيده.
(يتبع)