حُرمنا من التيار الكهربي لفترة ليست بقصيرة، وذلك لعدم وجود عداد إنارة خاص في البيت الذي نسكن فيه.  فتقدَّمت بطلب إلى الجهات المختصة؛ فطلبوا منا موافقة مالك العقار، والواقع أن المالك هو المتسبب في قطع التيار، وهو يرفض الموافقة، لأنه يريد طردنا من منزله.  كان والداي حينذاك مسنين، وأنا وأخوتي صغار، والانتقال إلى منزل بديل يحتاج لوقت طويل، ومال كثير.  طرقنا كل الأبواب الودية والرسمية مع المالك؛ ونظرًا لنفوذه وعلاقاته، باءت المحاولات جميعها بالفشل.

وأخيرًا، علمت أن المحافظ يتلقى شكاوى المواطنين يوم الأربعاء من كل أسبوع، فتحمَّست للذهاب إليه.  ولم أنتظر الأربعاء بل ذهبت يوم الثلاثاء، لكي أرفع له شكواي.  لكنني لم أتمكَّن من مقابلته، ومنعوني من الدخول إلى مكتبه، وأكدوا لي أنه من الممكن أن تقابله في الغد.  انتظرت بفارغ الصبر حتى جاء الغد، وعندما ذهبت فوجئت بالكثيرين الشاكين مثلي، أتوا ليتقدموا بطلباتهم وشكاواهم، ظروفهم أصعب وأقسى من ظرفي.  كنت أنا أصغر المواطنين في القاعة تقريبًا؛ فاستدعاني المحافظ وقال لي: ”ما هي مشكلتك يا بني؟“  فتلعثمت ولم أستطع أن أعبِّر عن مشكلتي؛ فحكايتي طويلة وهو يريد كلمات قليلة، والشكاوي كثيرة ووقت المحافظ ثمين.  فقلت له مرتبكًا: ”ما أريده يا سيدي كتبته هنا في هذا الطلب“، فقدَّمت له شكواي.  وفي ثوانٍ، مرَّت كالدهر، قرأ المحافظ الطلب، ثم أمسك بقلم أحمر ووضع دائرة على بعض الكلمات، وكتب في المساحة البيضاء من الورقة أيضًا بعض الكلمات، ثم قال لي مداعبًا: ”مبروك يا ابني...  روَّح وهتلاقي بيتكم منور، علشان تذاكر دروسك“.  لم أستطع أن أتمالك مشاعري عندما قرأت تلك الكلمات، فقد غلبتني دموعي وجاءت دون استدعاء، فما أبشع الظلم، وما أقسى الظلام والليالي السوداء، إنها ليست دموع البؤس والشقاء بل دموع الأمل والرجاء، كنت قد كتبت في شكواي: ”إننا يا سيدي المحافظ نسكن في هذا المنزل بموجب عقد رسمي وصحيح، وندفع الإيجار في حينه، ونريد توصيل النور، حتى أذاكر دروسي أنا وأخوتي، فما أردأ الظلام“.  كان المحافظ قد وضع الدوائر الحمراء حول كلمات: ”النور“ و”أذاكر دروسي“.

قرائي الأعزاء: لا أستطيع أن أصف لكم شعوري في هذه اللحظات؛ فكم كنتُ فَرِحًا وسعيدًا؛ لقد خرجت من محضر المحافظ وقلبي يرقص طربًا.  وفي طريق عودتي رأيت الناس والأشياء من حولي بطريقة مختلفة، كنت أشعر وكأني عصفور قد خرج من محبسه، وفَرَدَ جناحيه مغردًا، محلِّقًا حرًا طليقًا. ذهبت إلى البيت لأزفّ هذه البشرى السعيدة لإخوتي، ولكن للأسف لم يصدقوني.  كانوا يؤكِّدون ويقولون: ”المشكلة مش في المحافظ ولا في المسؤولين الكبار، لكن المشكلة في صغار الموظفين المرتشين، الذين وضعهم صاحب العقار في جيبه، بسبب كثرة ما يضعه هو في جيوبهم“. 

مرَّت الأيام ثقيلة ولم يحدث شيء، ونحن نرزح في العتمة والظلام، وكانت اللغة السائدة: ”مفيش فايدة“.  لكني كنت أتمسَّك بما كتبه المسؤول الكبير وبقلمه الأحمر وهو يأمر الجميع: ”يتم توصيل الإنارة، والإفادة“.  حتى جاء اليوم الموعود، وإذ بموظفي شبكة الكهرباء يتوافدون بسياراتهم ومعداتهم على مرأى جميع مَنْ في الشارع.  وفي وقت قصير قاموا بتوصيل الإنارة إلى بيتنا؛ فانقشعت الظلمة بلا رجعة، وتحرّكت المروحة فّرِحةً راقصةً بعد السكون، ونطقت الأجهزة الصامتة، وغرَّد المسجِّل عاليًا بالترانيم الشجية.  جاء رئيس البلدية بنفسه ليطمئن على تلبية طلب تلميذ الإعدادية قائلاً لي: ”أي خدمة يا باشا، واحنا كلنا في خدمة الباشا الكبير“.

أخي القارئ .. أختي القارئة.. أريد أن أسألك بقلب صادق ومحب وبعين دامعة هذه الأسئلة الهامة والمصيرية.

1. هل تشعر بمرارة وقسوة الظلمة الأدبية والأخلاقية من حولك؟  وهل تبغض النور وتحب الظلام مثل أغلب البشر الذين تنتظرهم الدينونة؟  كقول المسيح: «وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة» (يوحنا3: 19).

2. هل قدَّمت طلبًا لإنارة قلبك وفكرك وأبديتك؟  وهل دخل المسيح بيتك فأزاح الظلمة؟  أم إنه ما زال يطرق بابك، وأنت مشغول بالطعام والشراب؟  أو بالعمل والسفر، أو بالبناء والهدم، وتركته واقفًا خارج قلبك وبعيدًا عن دائرة اهتمامك وتفكيرك؟  ولا تنسى أن المسيح هو: «النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان» (يوحنا1: 9).

3. وإن كانت المحافظة تتلقى الشكاوى يومًا واحدًا في الأسبوع، لكن تذكَّر أن السماء مفتوحة دائمًا كل أيام الأسبوع، يقول الرب يسوع: «هنذا قد جعلت أمامك بابًا مفتوحًا ولا يستطيع أحدًا أن يغلقه» (رؤيا3: 8).  ويقول لنا أيضًا: «اسألوا تُعطوا.  اطلبوا تجدوا.  اقرعوا يُفتح لكم» (لوقا11: 9).

4. وإن كان المحافظ قد سمع شكواي ورقَّ لحالي «أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلاً، وهو متمهل عليهم؟  أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا» (لوقا18: 7 8).  صديقي: إن كنت تشعر بالظلم من قريب وحبيب أو من بعيد وغريب؛ فثق في الرب؛ فشكواك ومشكلتك هي شغله الشاغل. يقول الكتاب: «فَإِذَا قُلْتَ إِنَّكَ لَسْتَ تَرَاهُ، فَالدَّعْوَى قُدَّامَهُ، فَاصْبِرْ لَهُ» (أيوب35: 14).

5. هل تصدِّق الرب يسوع وتثق في أقواله؟  لقد تمسكت أنا، بل وصدقت واحتفظت بما كتبه المحافظ بقلمه الأحمر، رغم كل أصوات عدم الإيمان من حولي؛ فهل تثق في دم المسيح وعمله الكفاري وتناجيه وتثق فيه، قائلاً له:

 يا رب كُن تُرسًا ليَوملجأً حصين
فحُجَّتي للمشتكي
فداؤكَ الثمين
 
إنه حتمًا سيستمع إلى شكواك، وسيتداخَل يقينًا في بلواك، بل وسينير لك الحياة والخلود، وتضمن الأبدية السعيدة في حمى الرب الودود.