قد تسمعها من مواطنين صارخين وساخطين، معطَّلين في دهاليز المرور، وموظفين في عالم غاب عنه السرور، يقضون أيامهم بالعد التناقصي منتظرين يوم ”قبض المرتب“، يجذبهم خبر زيادة الحد الأدنى، ويبنون أحلامهم عليه بالحد الأقصى!! وفي كلا الحالتين شعار حياتهم: صبَّرنا يا رب!!
أو قد تسمعها من متألم فاجأته التجربة بدون سابق تنبيه، تحطمت سيناريوهات أحلامه وتبدَّل نوره بظلامه، كان يقرأ الحوادث ويسمع عنها، وأما الآن فهو يكتوي ويتألم من وخزاتها، يتذكر مفقوده ولا يجد ما ينصب عوده، فيرفع عينيه إلى خالقه قائلاً: صبَّرنا يا رب!!
”صبَّرنا“ و التفسير!على قدر انتشار كلمة الصبر في مجتمعاتنا، واختلاف أساليب صياغتها على ألسنة شعبنا، على قدر اختلاف البشر في تفسير معنى الصبر الدقيق وماهيته؛ فالبعض يرى أنه هو تحمّل التجارب، والسكوت على البلوى المُحرقة، وعدم مناقشة الله فيها أو التذمر عليها. والبعض الأخر يحسب الصبر أنه هو الانتظار لفرج الله بحل معجزي من عنده يجعل المشاكل تهون. ويمكننا أن نلمح مصادقة الكتاب المقدس ذلط مرات مرتبطًا بالانتظار «انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ» (مزمور37: 7)، ومرات أخرى مرتبطًا بالتحمل «وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ» (متى24: 13).
لكنني أصارحك أن هذا التفسير (رغم صحته وروعته) لم يكن يقنعني بالكامل، لأني اكتشفت عمليًا أن هذا يحوِّل كلمة الصبر إلى درس قاسٍ يبدو أن الله يجبرنا بالآلام أن نتعلمه؛ ولهذا يرفضه أغلب الدارسين، أو ”شَربة“ مُرة يشربها المتألمين لكي تمر بسرعة ضيقتهم؛ ولهذا يتأفف منها أغلب المُجرَّبين. فهل الله هو إله قاسٍ يعذبنا ليرى قوة تحملنا وانتظارنا؟ حاشا أن يكون هذا بالطبع! فلا بد من تفسير آخر للصبر، بعيدًا عن الألم والخسارة والفقدان، يمكننا أن نتفهمه، ونخسر كثيرًا إن تجاهلناه.
”صبرنا“ و التغييرات الجذرية!الحقيقة أنه لكي نفهم تفسير الله عن الصبر، علينا أن نلقي نظرة على المثال الأشهر للصبر البشري المتاح لنا؛ وأقصد أيوب، والذي شهد عنه الرسول يعقوب «هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ» (يعقوب5: 11). ومن يدقق في دراسة قصة أيوب المؤلمة، ويقارن بين بدايتها الكارثية (أيوب1)، وبين نهايتها الاحتفالية (أيوب42)، يدرك أن الله المُحب في تجاربنا المتنوعة، لا يهتم فقط بقُدرتنا على التحمل اللطيف أو الانتظار السلبي لنهاية التجربة، ولا حتى بمضاعفة الممتلكات (كما فعل مع أيوب)، أو التعويض عن الخسائر المادية والمعنوية (كما يفعل معنا)، وإلا ما كان لزوم التجربة من البداية؟!! ولكن الله يهتم بالأساس، أن ينجز عمله هو فينا خلال وقت التجربة، وأن يُنضِّج شخصياتنا لتناسب مع خدمتنا له، ومع مجده المراد لنا، سواء هنا أو في الأبدية، وأن يغير جذريًا الأفكار الراسخة في أذهاننا، والسلوكيات الخاطئة في أفعالنا، والتي لا تتناسب مع خططه الصالحة لحياتنا، بمعنى أن الصبر هو فترة من الزمن يحتاجها الإنسان لكي يغنم بركات التحمل والانتظار، ويحتاجها الله أيضًا لإنضاج شخصياتنا وتغيير سلوكياتنا وأفكارنا.
وهذا ما حدث بالتمام مع أيوب الصابر؛ فنتيجة صبره، لم تكن مجرد مضاعفة الأملاك والتعويض بالأولاد، ولكن أنظر إلى تغيير أفكاره الجذرية عن الله؛ فبدأ يدرك أن الله هو الخالق القدير، وهو السيد على كل المخلوقات والكائنات، وعلى أيوب أن يخضع لسيادة الله عليه دون شروط فصرخ «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ»، وأنظر إلى إدراكه أن الله هو البار والعادل، وأن قضيته لا تختلف عن مليارات القضايا أمام الله، وعليه أن يتقبل حكمه الصالح، ويتحرر من أي مرارة أو إدانة لله، فهتف بيقين «فَمَنْ ذَا الَّذِي يُخْفِي الْقَضَاءَ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ وَلكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا» (أيوب42: 2، 3).
وأنظر إلى تغيير أفكار أيوب الجذرية عن نفسه، فأدرك أنه معدوم المعرفة ومحدود العلم، فترك اعتماده على فلسفته وحكمته، وشعر باحتياجه أن ينهل من نبع العلم نفسه، فطلب «اِسْمَعِ الآنَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ. أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي»، وفي نفس الوقت نجده على غير عادته، يرفض أن يعتد بذاته، بعد أن كان يفخر ببرها أمام أصحابه، فيقول «بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي، لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ» (أيوب42: 4، 5). وملخَّص هذه التغييرات الفكرية الجذرية، أن الله أصبح بالنسبة لأيوب هو القدير والسيد والعليم والبار والعادل والصالح، وأن أيوب أصبح بالنسبة لنفسه هو المخلوق والمحدود والمعدوم والجاهل والرافض لذاته، وكلها تغييرات تحتاج عشرات السنوات لكي تتم في حياة الإنسان، وبدونها لا علاقة صحيحة مع الله، ولا أي بركة روحية تأتي للإنسان، وكان السبب المباشر لها هو الصبر!!
”صبَّرنا“ و المرونة!إلا أن الأمر لم يتوقف مع أيوب، على تغيير أفكاره الجذرية أثناء الصبر، ولكن الله صنع أمرًا رائعًا في شخصيته، ليجعله أكثر نضجًا ومرونة، وهو أمر غاية في الروعة لم يمتلكه أيوب قبل تجربته. فرغم غضبه من أصحابه، وكم النقاشات الجارحة معهم، نجده يصلي لأجلهم، ويقدم ذبائح لله نيابةً عنهم (أيوب42: 10)!! ورغم حالته النفسية الصعبة، نجده يخرج من أنانيته، ويكون كريمًا مع اخوته ومعارفه (أيوب42: 11)!! وكلا الأمرين لا نقرأ أن أيوب فعلهما أثناء غناه وعظمته قبل تجربته، لأنه كان فقط محصورًا في نفسه وعائلته، ولكن بعد أن تعلم الصبر أصبح مرنًا مع الله ومع نفسه ومع الناس.
وهو ذات المعنى الذي يشرحه بولس الرسول قائلاً «نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً» (رومية5: 3،4)، فالصبر في الضيق لا يدفعنا فقط لأن يكون لنا رجاء أن ينتهي هذا الضيق، ولكن هناك حلقة مفقودة تغيب عننا؛ وهي التزكية، والتي تأتي بمعنى المرونة في الشخصية، والتي تُعتبَر من أكبر مكاسب الصبر التي يصنعها فينا إلهنا، والتي إن غابت عن المؤمن والكنيسة، كثرت الاحتكاكات، وزادت الانشقاقات، وفترت العلاقات، بسبب قلة المرونة، أو لنقل قلة الصبر!!
عزيزي القارئ المتألم ... لعل هناك تجربة مُرّة في حياتك (كما في حياتي)، وأعلم أن الأَمَرّ منها هو عدم قدرتك على الصبر، وتململك من الانتظار والتحمل، لكن اعلم أن الصبر بالنسبة لله ملك الدهور، ليس وقتًا ضائعًا، ولا كأسًا مرًا لزامًا علينا أن نتجرعه، لكنه فترة مجيدة يستغلها الله ليغيّر أفكارنا الجذرية الخاطئة، وينضِّج شخصياتنا، ويكسبها المرونة اللازمة، والتي بدونها لا خدمة صحيحة، ولا شخصية سوية، وفي نفس الوقت سيكافئ الله صبرنا باستعلان مجده في شخصياتنا.
كتير رفضت درس الصبر، واعتبرته كاس مليان مرار
وماكنتش فاهم تفسيره عندك، غير أنه تحمُّل وانتظار
لكن أتاريه ده مصنعك، وخط انتاجه تحف ذهبية
لما تضغط ساعات إيدك، وتحفر بعمق في الشخصية
ساعتها يتنقل حبيبك نقلات، وتباركه بصفات الأبدية
ساعدني أفهمك، وأصدَّق صلاحك وحكمتك ولو فيها أسرار
وأعرف إن مفيش وقت ضايع في سكتك، وبالصبر يكمل المشوار