المطوبة مريم واحتمال المشقات
تأملنا سابقًا عن المطوبة مريم وكيف كانت تسأل للمعرفة، ورأينا اتضاعها، وإيمانها، وخضوعها لمشيئة الله، وشركتها مع المؤمنات، وكيف سبَّحت للرب تسبيحة جميلة فيها تُعظم الرب وتبتهج بالله مخلصها. والآن بمعونة الرب نتأمل في:
احتمالها المشقات:عندما كانت العذراء مريم حُبلى بالمسيح وهي في مدينة الناصرة التابعة لمقاطعة الجليل في شمال إسرائيل، صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يتم إحصاء كل سكان مملكته؛ فصعد يوسف النجار من مدينة الناصرة، في الشمال، إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، وهي تابعة لمقاطعة اليهودية في الجنوب، وهي مدينته الأصلية، ليتم تسجيله في الإحصاء مع امرأته المخطوبة وهي حبلى (لو2: 1-5).
كان السفر شاقًا ومجهِدًا، وكانت تستخدم فيه الدواب، أو سيرًا على الأقدام، والمسافة بين الناصرة وبيت لحم تقدَّر بأكثر من 100 كيلومترًا، وكانت تُقطَع في عدة أيام.
وعندما وصلت بيت لحم، تمَّت أيامها لتلد؛ فذهبا إلى منزل (فندق) ولكن لم يكن لهما موضع فيه. فولدت ابنها البِكر وقمَّطته وأضجعته في المذود.
لقد احتملت ليس فقط مشقات السفر الطويل والمرهق بسبب حبلها، لكن أيضًا آلامًا نفسية لعدم وجود مكان لهما إلا في المذود. فهي من سلالة الملك داود، والمولود هو عمانوئيل، وقال لها الملاك عنه: «هذا يكون عظيمًا وابن العلي يدعى». لقد احتملت كل هذا بشكر وصبر.
وظلت أربعين يومًا في بيت لحم حيث تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى (لاويين 12: 1-4)، ثم صعدوا بالطفل يسوع إلى أورشليم ليقدِّموه للرب. ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة.
وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، وعندما كان الطفل يسوع له من العمر سنتين ذهبوا إلى العيد في أورشليم، ولأن بيت لحم قريبة من أورشليم - حوالي 10 كيلومترات - فكانوا بعد العيد يذهبون ليقضوا وقتًا مع العائلة في بيت لحم. وفي هذا الوقت جاء مجوس من المشرق إلى أورشليم قائلين: «أين هو المولود ملك اليهود؟» فاضطرب هيرودس وجميع أورشليم معه. وعلم أن المسيح يولد في بيت لحم بحسب نبوة ميخا 5: 2؛ فأرسل المجوس إلى بيت لحم ليسجدوا للمسيح، ليعلم مكان وجوده ليقتله. وبعد أن جاء المجوس وسجدوا للمسيح انصرفوا في طريق آخرى ولم يرجعوا إلى هيرودس.
وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلاً: «قُم وخُذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر، وكُن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر» (متى2: 13، 14). بالتأكيد حدث ارتباك وجمعوا ضروريات السفر بسرعة، وقاموا ليلاً ليهربوا من بطش هذا الملك الدموي، وظل السفر أياما كثيرة حتى وصلوا بسلام إلى مصر، ومكثوا في مصر فترة غير معروفة حتى مات هيرودس.
ثم ظهر ملاك الرب ليوسف في حلم في مصر قائلاً: «قُم وخُذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل وأتى وسكن في الناصرة» (متى2: 20، 21).
وعندما كان الصبي يسوع له من العمر اثنتا عشر سنة، صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد، وبعدما أكملوا الأيام، بقي الصبي يسوع في أورشليم، عند رجوع يوسف وأمه وهما لم يعلما. وإذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف. ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل، لقد كانت المطوبة مريم ويوسف يطلبانه معذَّبين، أي كانا يبحثان عنه وهما في ضيقة عظيمة. تخيَّل معي مشاعر أم فقدت ابنها وتبحث عنه في كل مكان، كم من الآلام النفسية والتعب الجسدي احتملته.
لقد احتملت المطوَّبة مريم المشقات الكثيرة من أجل الرب. ليتنا نحن أيضًا نحتمل المشقات من أجله بشكر وصبر. لقد قال بولس لتيموثاوس: «احتمل المشقات»، «اشترك في احتمال المشقات لأجل الإنجيل بحسب قوة الله»، وأيضًا «فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح» (2تيموثاوس 1: 8؛ 2: 3؛ 4: 5). وقال بولس عن نفسه: «الذي فيه احتمل المشقات حتى القيود كمذنب»، وأيضًا يجب أن «عبد الرب ... يكون ... صبورًا على المشقات» (2تيموثاوس 2: 9، 24). وقال يعقوب: «خذوا يا إخوتي مثالاً لإحتمال المشقات والأناة: الأنبياء الذين تكلموا باسم الرب» (يعقوب 5: 10).