قد تسمعها من أم غاضبة أو أب مؤدِّب، تأتي في صيغة التهديد وتنذر بالوعيد: على الله ماتحلش الواجب..  على الله تيجي بعد الساعة 12!!

أو قد تسمعها من موظف يستمع لأوامر مديره، يشرح له مهماته ويُحفِّز كل طاقاته، وفي النهاية يقول له: شد حيلك وورينا شطارتك بقى، فيرد الموظف مبتسمًا: كله على الله يا فندم!!
ولأنها كلمة رائعة ظاهرها الاتكال على الخالق القدير، وباطنها الثقة في إنجازه، فحري بنا أن نتأملها لا في صيغتها التهديدية، ولكن في صيغتها الاتكالية، التي تجعلنا نعيها ونعنيها عندما ننطق قائلين: على الله!!

على الله” والاتكال!

لا شك أن المعنى الأوضح والأبسط لكلمة “على الله”، هو الاتكال الكامل على الله تعالى، وعلى قدرته التي تسهِّل أي صعب، وتتخطى أي مشقات؛ وهذا أمر رائع بلا جدال حرضنا عليه سليمان الحكيم قائلاً «تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ» (أمثال3: 5) وشرحه لنا والده داود موجزًا «وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ الْعَارِفُونَ اسْمَكَ، لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ» (مزمور9: 10).  فنحن قد خُلقنا، لا لننفصل عن الله في أفعالنا، ولكن لكي نتكل عليه في كل صغيرة وكبيرة، وهذا ما يشرِّفنا.  لكن هذه ليست المشكلة، فالقاصي والداني يتكل على الله في كل ما يعجز عن فعله، ويلقي بكل مهماته (مهما كانت) على الله القدير لينجزها.

ولكن تبقى المشكلة الحقيقية هي أنه على قدر تأكيد الناس باللسان اتكالهم على الله، فإن الواقع يثبت عكس ذلك.  فالظواهر الطبية تشير إلى انتشار الأمراض التي تنتج من «عَوَلان» هم الإنسان لاحتياجاته، والتفكير المستمر في حلول مشاكله.  والظواهر الاجتماعية تشير إلى ابتعاد الناس عن الاتكال على الله، فعند المصالح الحكومية، يبدأ البحث عن أي واسطة، ولا نترك لله فرصة ليظهر سلطانه على الطوابير والتقارير، أو أن يشجِّعنا باختبار جديد لمرافقته لنا.  وعند القرارات الفردية، نبتعد عن طلب مشورة الله ورأيه ووجهة نظره، ونستعين إما بأصدقاء الحاضر أو بخبرات الماضي أو بتوقعات المستقبل.  وفي كل الأحوال فنحن كثيرًا ما نقول “على الله”، فيما نُدخل أنفسنا فيما لا يعنيها، وفيما هو أصلاً “على الله” وليس علينا نحن!!

“على الله” وحروف الجر!


والحقيقة أن حل مشكلة ازدواجية قولنا “على الله” وعيشنا بالاعتماد على أنفسنا، يكمن في فهم مشيئة الله وإرادته نحونا، وهذا أمر يستحق الشرح قليلاً.  فعندما نذكر أي كلمة عن مشيئة الله، على الفور نستدعي السؤال الأشهر في المؤتمرات، والحيرة الأكبر التي تشغل المخيلات، والتي يقف فيها المؤمن عاجزًا عن معرفة ماذا يريد الرب له؛ خاصةً مع القرارات المصيرية (الزواج، الهجرة، العمل).

لكن الحقيقة فإن مشيئة الله أوجزها بولس الرسول، في ثلاث حروف جر في منتهى الأهمية، فنقرأ «يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ!...  لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟...  لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ» (رومية11: 33 36) ، وهنا بيت القصيد؛ فحرف الجر «منه» يمثل أن الله هو المصدر؛ فيكون هذا الأمر أو القرار أو الفعل هو من يد الرب وليس من يد غيره، أما حرف الجر «به» فهو يمثل الوسيلة والكيفية؛ فالأمر الذي يأتي من الله، فإن الله متكفل بكل ما يلزمه من احتياجات ومتطلبات، أما حرف الجر «له»؛ فيمثل الغرض والهدف، والذي يتمحور حول مجد الله وامتداد ملكوته، وهكذا تكتمل ثلاثية مشيئة الله «منه» و «به» و «له».  ولكن ما علاقة مشيئة الله بالاتكال “على الله”؟!!

العلاقة تكمن في حرف الجر «به»؛ فالأمر الذي في مشيئة الله، والذي من يده الرائعة «منه»، وفي نفس الوقت يكون لمجده ولبركة خليقته «له»، يجب علينا ألا نعول هَمَّه مطلقًا، لأن الله القدير سيتكفَّل بكل متطلباته.  فإن كان الله رتَّب لنا عملاً هو مصدره «منه»، وهذا العمل لمجده «له»، فلا يجب علينا أن نقلق لو حدثت أي مشكلة في هذا العمل، أو حتى فقدناه، أو زادت التزاماته علينا، لأن الله – في هذه الحالة – سيضمن أن يكون هذا العمل «به».  فطالما الله هو المصدر، وهو الغرض، فسيكون هو الوسيلة أيضًا، ووقتها سنختبر على حق أننا نعيش “على الله”!!

“على الله” والتطبيقات!


ولشرح الفكرة السابقة سأكتفي بتطبيقين طبَّقهما المسيح على الأرض، الأول خاص بمتطلبات الحياة اليومية، فنُفاجأ به يقول لهم: «لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ.  أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟» (متى6: 25).  وهنا المسيح يقول لهم، لا تهتموا بالوسيلة «به»، وكيف سيأتي الطعام والشراب والملابس، لأن الذي أعطاكم الأغلى (الحياة، الجسد) ، لن يبخل عليكم بالأرخص (الطعام، اللُباس) ، وطالما أن الجسد “من الله”، والجسد مخلوق لمجد الله «فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ للهِ» (1كورنثوس6: 20) ، فالله سيتكفل بكل ما يتطلبه الجسد، من أكل وشرب وملابس وغيره.  فالأمر الذي من الله، ولمجد الله، فطبيعي أن يكون “على الله”.

والتطبيق الثاني خاص بالأمور الروحية والخدمة.  عندما أرسل تلاميذه (متى10) ، شرح لهم الإرسالية بكل تكلفتها ومخاطرها.  وقال لهم إن طالما الخدمة من الله، فلا يعولوا هَمَّ متطلباتها ومصاريفهم الشخصية فيها «لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ...»، ولا يعولوا هَمَّ متطلبات الخدمة الروحية، والكلام والأفكار واستمرارية الفاعلية في الخدمة «فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ» (متى10: 9، 10، 19، 20).  فالخدمة أو الإرسالية التي من الله ولمجد الله، فإنها تكون “على الله”!

عزيزي القارئ...  ليت الرب ينير أذهاننا، ويقنعنا أن كل شيء؛ صغير أو كبير في هذا الكون، وكل قرار أو اختيار لنا، لا بد أن يخضع للقاعدة الثلاثية لمشيئة الله “منه وبه وله”؛ ولهذا فعلينا أن نصرف وقتًا في الصلاة قبل أي خطوة أو قرار، لا لنسأله عن الوسيلة أو الكيفية، ولكن لنطلب من الرب أن يوضِّح لنا إن كان هذا الأمر من يده أم من يد غريبة، وأن نصرف وقتًا آخر في الصوم وامتحان النفس، لكي ننقي دوافعنا الشريرة، لكي يكون هذا الأمر فقط لمجده.  وحال يتحقق هذين الأمرين، فلا تَعُل الهَمّ؛ فالأمر الذي من الله، ولمجد الله فسيكون تلقائيًا...  “على الله”.


ياما قلت إني باتكل عليك، وحياتي اليومية بتكذِّب اتكالي

وعُلْت الهَمّ وأنا مسلِّم ليك، ودايمًا ذهني مشغول بأحوالي

أتاري مشيئتك في الأمر اللي منك واللي ليك

وإرادتك وأهدافك دايمًا بتنفذها ايديك

والشيلة كلها مش عليَّ، لكنها عليك

“فَلْتَر لي” قراراتي تكون من يدك، ومن غير ما تشغل بالي

ونقيلي دوافعي لمجدك، فتبقى خطط ملكوتك هي انشغالي