واضح من العنوان أن هناك تناقضًا - ولو ظاهريًّا - بين هذين الأمرين: “قاوموا!” و“لا تقاوموا!” في الحقيقة نحن نجد في الكتاب المقدس وصايا مباشرة تحثّنا على أن “نقاوم” بينما هناك وصايا صريحة أخرى تحرضنا على ألا نقاوم! يعني نقاوم أم لا نقاوم؟!
كثيرًا ما أرغب أن يعطيني الرب - أحيانًا من باب الاستسهال - مبدأ يصلح لكل المواقف، وأتصور أنه ما دام يحثني على أن “أقاوم”، فهذا يعني أن أفعل هذا دائمًا. لكن فكر الله ليس دائمًا كما نتصور؛ فهو تارةً يريدنا أن نقاوم وأن نثبت في مواجهة العدو، وتارةً أخرى يُعلِّمنا أن الهروب هو خير وسيلة للتعامل مع عدو آخر! أن أهرب حيث تلزم المقاومة، أو أن أقاوم حيث يجب الهروب؛ فسيؤدي هذا حتمًا إلى الهزيمة. والرب في حكمته ورحمته سبق فأخبرنا بما يتعيَّن علينا فعله للانتصار. والأسلم لي ولك، يا صديقي، هو أن نطيع في بساطة وخضوع.
1. قاوموا...
توصينا كلمة الله أنه في مواجهة إبليس لا يمكننا التراخي أو الهروب أو الانسحاب، بل علينا بالمقاومة والصمود والوقوف بثبات. فمثلاً يعلِّمنا الوحي أن «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يعقوب4: 7) ، وذلك بأن نخضع لله الذي يُعطي نعمة للمتواضعين. ففي مواجهة الكبرياء التي ينشرها إبليس في العالم، ليس علينا إلا أن نتواضع ونخضع لإرادة الله، وهكذا نقاومه فيهرب مِنَّا.
وبعد أن حرَّضنا الكتاب أن نصحوَ ونسهرَ لأن خصمنا «كَأَسَدٍ زَائِرٍ يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ»، يُشَجِّعنا أن نقاومه «رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ» (1بطرس5: 8 9). والمقاومة هنا هي عن طريق الثقة في الله. فكأنَّ إيماننا بالله في كل المواقف والظروف هو صخرة نقف عليها فلا نتزعزع، وذلك بأن نُلقي كل هَمِّنا على إلهنا الذي يعتني بنا دائمًا.
وهناك دائرة أخرى ينبغي فيها أن نثبت ونقاوم إبليس وجنوده؛ هي دائرة الامتيازات والبركات السماوية التي وهبها الله لنا في المسيح، ولكن لنتمتع بها عمليًّا علينا أن نلبس «سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ» لكي نقدر أن نثبت «ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ». ويشرح لنا الروح القدس أن «مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ... أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ» والمجال الذي تحدث فيه هذه الحرب هو «فِي السَّمَاوِيَّاتِ»، ويُحَفِّزنا أن «احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا» (أفسس6: 11 13).
2. لا تقاوموا...
بينما يوصينا الكتاب المقدس أن نقاوم إبليس دائمًا، نجد الرب يسوع - له كل المجد - في الموعظة على الجبل يقول: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا» (متى5: 38 42). وهو هنا يُحَرِّضنا أن لا نقاوم مَن يُناصِبنا العداء من البشر، فنحن لا نُعادي أحدًا، ولا نرد الضرر بمثله، لكن من مبادئ ملكوت السماوات أن لا نقاوم مَن يصنعون بنا شرًّا. وهذا ليس تحريضًا على الخنوع والاستسلام كما قد يظن بعض الناس، لكننا في سبيل تمجيد الله أبينا نَقبَل أن نتحمَّل ما يفعله بنا الأشرار، ونحن ندرك تمامًا أن ما قد يسمح به الرب أن يَصِل إلينا من شر هو بلا شك محسوب بدقة متناهية وله غرض سامٍ لمجد الله ولخيرنا. صرخ داود قديمًا: «الْمُجَازُونَ عَنِ الْخَيْرِ بِشَرٍّ يُقَاوِمُونَنِي لأَجْلِ اتِّبَاعِي الصَّلاَحَ» (مزمور38: 20) ، فيالسعادتنا إن تألَّمنا من أجل البر (1بطرس3: 14) !
والطاقة الروحية التي تساعدنا في سبيل تحمُّل المقاومة من الأشرار دون رَدِّها، نستمدها من التأمُّل الدائم والمستمر في ربنا يسوع «الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هَذِهِ» حتى لا نَكِلَّ ونَخُور في نفوسنا من الداخل (عبرانيين12: 3) ، فهو «الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (1بطرس2: 23).
3. اهربوا...
هل يمكن أن يكون الهروب وسيلة للانتصار؟! بكل تأكيد! فهذا هو فكر الله من جهة مقاومة بعض التجارب. والهروب يحدث أولاً في الفكر؛ فيجب أن تتحول فورًا بفكرك بعيدًا عن التجربة. وقد يقتضي الأمر في بعض الأحيان أن تهرب فعليًّا من مكان ما (قد يكون مكانًا افتراضيًّا؛ كموقع على الإنترنت مثلاً أو تطبيق على المحمول) أو أن تترك “شلة” من الأصدقاء لا تجلب لك إلا المتاعب بجرِّك نحو ما لا يمجِّد الله!
يُحَرِّضنا الوحي: «اهْرُبُوا مِنَ الزِّنَا!» (1كورنثوس6: 18) ، ليس على مستوى الممارسة الفعلية فقط، بل أيضًا كما علَّمنا الرب يسوع أن «كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ» (متى5: 28). فمجرد النظرة بهدف الاشتهاء تعني أن الأمر قد حدث في قلبك! ولعلَّ أوضح مثال لنا هو يوسف؛ الشاب المُستَعبَد في أرض غريبة والبعيد عن كل الذين يعرفونه، الذي ركض خارج البيت وتَرك ثوبه في يد امرأة وزير داخلية مصر، وعانَى من السجن ظُلمًا ثمنًا لهروبه من الزنا معها (تكوين39: 12).
وهناك الوصية الصريحة: «اهْرُبُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ!» (1كورنثوس10: 14). والأوثان هي كل ما يستحوذ على تفكيري وعواطفي من دون الله، حتى وإن كان مشروعًا وليس شرًّا في حد ذاته. الكتاب المقدس يعلِّمنا مثلاً أن الطمع صورة من صُوَر عبادة الأوثان (كولوسِّي3: 5).
وهناك «مَحَبَّةَ الْمَالِ» التي هي «أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ». فينصح الرسول بولس كلَّ واحد فينا: «أَمَّا أَنْتَ يَا إِنْسَانَ اللهِ فَاهْرُبْ مِنْ هَذَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالصَّبْرَ وَالْوَدَاعَةَ» (1تيموثاوس6: 10 11). ولنا في كلمة الله أمثلة مبارَكة لرجال عظماء استطاعوا أن يهربوا من محبة المال؛ مثل: إبراهيم (تكوين14: 22 23) ، وأليشع (2ملوك5: 16)..
ويحث الرسول بولس تيموثاوس أيضًا: «أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالسَّلاَمَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الرَّبَّ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ» (2تيموثاوس2: 22). لقد استطاع موسى أن يحسب «عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ» مُفَضِّلاً الذل مع شعب الله على التمتُّع الوقتي بالخطية، وبالإيمان رفض بعزة نفس كل ما يلمع في عيون الشباب كالمال والسلطة (عبرانيين11: 24 26).
وقد لا يكفي الهروب في حد ذاته للانتصار، لكنك يا صديقي تحتاج أن تفعل شيئًا إيجابيًّا بعد أن تهرب؛ وهو أن “تتبع” البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والسلام والوداعة، ولكن ليس بمفردك بل مع إخوتك من المؤمنين الحقيقيين الذين “يدعون الرب من قلب نقي”. إننا نحتاج إلى أصدقاء من إخوتنا حتى يشجع أحدنا الآخر في حياة تمجد الله.