لا زلنا نستعرض خصائص الجسد، ذلك العدو الخبيث الذي يُعطل نمونا ونجاحنا الروحي، ولأنه ساكن فينا فهو يلازمنا حيثما نذهب، ويحتاج منا إلى الحذر والسهر الدائمين، وإلى فطنة روحية لندرك أساليبه وخصائصه؛ حتى يمكننا أن نتصدى له ونرفض وندين كل أعماله ورغباته. وكنا قد رأينا العديد من صفاته وإليك بعض الخصائص الأخرى التي تميِّز الجسد حتى تعرفه جيدًا، قبل أن نتكلم عن كيفية الانتصار عليه والتعامل معه.
1. الجسد يحب الاسترخاء ويختار الطريق الأسهل، ولا يكلِّف نفسه عناء فحص النفس والتوبة. قيل عن يساكر ابن يعقوب: «رابض بين الحظائر، رأى المحل أنه حسن والأرض أنها نزهة، فأحنى كتفه للحِمْلِ وصار للجزية عبدًا» (تكوين49: 14، 15). فالجسد يبحث عن رغدة العيش وأكبر قدر من الترفيه لإشباع وإمتاع رغباته، ويضحّي بالمبادئ والقيم في سبيل ذلك، ويرفض المعاناة والحرمان في طريق البر وإرضاء الله. إنه يبحث عن ذاته وليس عن إرادة الله. وعندما ارتحل أبرام ارتحالاً متواليًا نحو الجنوب، حدث جوع في الأرض، وكان الأجدر أن يسأل الرب ويفحص الأمر ويبحث عن فكر الله، وحتمًا كان الرب سيقوده رجوعًا إلى بيت إيل. لكنه سلك الطريق الأسهل؛ فانحدر إلى مصر حيث الشبع المادي، ولم يفكِّر في الجوع الروحي والخسائر التي ستحلّ به (تكوين12). ونفس الشيء حدث مع نُعمي وأليمالك عندما حدث جوع في الأرض، فذهبوا من بيت لحم ليتغرَّبوا في بلاد موآب، دون أمر الرب (راعوث1). وكان الأجدر أن يسألوا الرب: لماذا الجوع؟ ويراجعوا طرقهم ويتوبوا عن الشر، والرب سينظر ويصفح ويفتقدهم ليعطيهم خبزًا؛ وهذا هو الموقف الروحي الصحيح. لكن هذا ما لا يرغبه الجسد، فهو يبحث عن أي طريق آخر بخلاف فحص النفس والتوبة.
2. الجسد لا يعرف أن ينتظر الرب ويصبر له ويحترم مواقيته. لقد وعد الرب أبرام أن يعطيه نسلاً، وهذا النسل سيكون كتراب الأرض وكنجوم السماء في الكثرة (تكوين13، 15). وأبرام آمن بالرب ووثق في وعده، بالرغم من الصعوبة المنطقية في ذلك بسبب تقدُّمه في الأيام هو وسارة. لقد تأنى الرب في تحقيق الوعد، وكان على أبرام أن ينتظر. لكن الذي نجح في امتحان الإيمان فشل في امتحان الأناة والانتظار. والجسد سريع القلق، ويحاول اختصار الطريق بحلول بشرية. وهذا ما حدث، حيث أخذ هاجر الجارية وأنجب منها إسماعيل (تكوين16)، ولم يكن هذا موافقًا لفكر الرب على الإطلاق، بل سبَّب متاعب لا حصر لها. ونفس الشيء حدث مع ألقانة رجل حنة. لقد أغلق الرب رحمها، وكان المفروض أن يصلي معها وينتظر الرب، لكنه اختصر الطريق وتصرف بالجسد ليحل مشكلته وأخذ فننة زوجة ثانية، مخالفًا لترتيب الله الذي من البدء (1صموئيل1). ولم تكن بركة له بأي شكل، مع أنها أنجبت بنين وبنات. كذلك فشل داود في انتظار الرب الذي مسحه ليملك على إسرائيل وقال «إني سأهلك يومًا بيد شاول، فلا شيء خيرٌ لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين فييأس شاول من أن يفتش عليَّ» (1صموئيل27). وفي كل مرة نرى تسرع وقلق الجسد الذي يفشل في انتظار الرب ومواقيته.
3. الجسد أناني ولا يحب سوى نفسه، ولا يعرف مبدأ العطاء. لقد أحب شاول داود جدًا (1صموئيل16: 21)، لكنه بعد ذلك أبغضه جدًا وحاول أن يقتله 7 مرات. وأحب أمنون ثامار، لكنه أذلها وأبغضها بغضة مُرة وطردها (2صموئيل13). هذا هو الجسد الفاسد الأناني الذي يغدر. وفي قصة نابال الكرملي نسمعه يقول لعبيد داود الذين أرسلهم: «أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجازيَّ، وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم»؟ (1صموئيل25: 11). وهذا هو الجسد الذي لا يعرف العطاء.
4. الجسد مليء بالشهوات والرغبات الفاسدة الجامحة التي لا تشبع ولا تكتفي. هذا ما نراه في شمشون، البطل والنذير الأول، والذي كان روح الرب يحرِّكه في محلة دان بين صُرعة وأشتأول (قضاة13). لكننا نرى شيئًا آخر في أعماقه يحرِّكه في اتجاه مضاد. إنه الجسد الفاسد بشهواته. فنراه ينزل إلى تمنة وإلى كروم تمنة، وينزل إلى غزة، وينزل إلى وادي سورق. وفي الثلاث مرات، نزل لأجل امرأة فلسطينية. في المرة الأولى نزل ليتزوج واحدة من بنات الفلسطينيين في تمنة، رغم نصائح والديه؛ فكيف ولماذا يرتبط النذير بفتاة وثنية من أعداء شعب الرب؟ بالأسف كان جوابه: «لأنها حسنت في عينيَّ» (قضاة14: 3). أما المرة الثانية فقد نزل إلى غزة إلى امرأة زانية (قضاة16: 1). وبكل أسف كان يعرف إلى أين ولماذا هو ذاهب؟ ولم يتحذر أو يرتعب. فقد كان مدفوعًا بشهوة الجسد. أما المرة الثالثة فقد نزل إلى وادي سورق وأحب امرأة اسمها دليلة (قضاة16: 4)، وتملَّقته لتعرف سر قوته، وكان يراوغ ويخادع ويكذب ويستعرض قوته ويتحاور، ولم يتحذر. كان تحت تأثير المخدِّر الشيطاني، أو كان قد سكر بخمر الشهوة التي أدمنها. كان يتصرف كأحد السفهاء في إسرائيل، وجلب العار على الشهادة وعلى اسم الرب الكريم. وتحت الإلحاح كشف لها كل ما بقلبه، وعرَّفها بسر قوته، فأنامته على ركبتيها، وحلقت خصل شعر رأسه، وفارقته قوته، ولم يعلم أن الرب قد فارقه. فأخذه الفلسطينيون وقلعوا عينيه وقيدوه بسلاسل نحاس ونزلوا به إلى غزة، وكان يطحن في بيت السجن. وانتهت حياته نهاية مأساوية إذ مات مع الفلسطينيين، ومات في عز شبابه. والدرس المؤلم أنه ما أخطر تدليل الجسد وإطاعة رغباته. وليس فقط شمشون بل داود أيضًا وهو شيخ، عندما ترك المجال للجسد وشهواته ورغباته، ولم يقمَع هذا الجسد، نراه في وقت الفراغ يصعد ليتمشى على السطح، ويتطلع إلى امرأة ويشتهيها ويضطجع معها، ويحاول تغطية الأمر بعدة محاولات انتهت بقتل أوريا الحثي (2صموئيل11)، وبذلك كسر ثلاث وصايا في الناموس هي: لا تشته امرأة قريبك، لا تزن، لا تقتل. وما فعله كان قبيحًا في عيني الرب. وتبقى الحقيقة أن من يزرع للجسد فمن الجسد يحصد فسادًا.
وللحديث بقية إذا شاء الرب