عبارة نجدها على جانب الطريق أثناء قيادة السيارة، وهي إحدى لوحات المرور الإرشادية التي تدعو الناس إلى التركيز في القيادة، لأن تشتيت الفكر وعدم تركيز النظر على الطريق قد يسبِّب حوادث خطيرة لهم أو للغير، وهذا ما يهم إدارة المرور في المقام الأول. وإن لم تسِّبب ضررًا جسيمًا فهي تعطِّل الواحد عن الوصول لوجهته، وتهدر وقته الثمين وتستهلك طاقته وموارده... الخ. ماذا لو أن شخص يقود سيارته على الطريق السريع، ثم اكتشف متأخرًا - بسبب عدم التركيز في الطريق - أن المخرج الذي كان يجب أن يأخذه قد فاته؟ بالطبع سيكون مضطرًا أن يعود إلى المسار الصحيح فيضيِّع وقتًا كثيرًا ويتعطَّل السفر، هذا بخلاف التأفف والضجر. أما عن الحوادث التي قد تحدث بسبب عدم التركيز في الطريق فأعتقد أنها غير خافية عنا.
هكذا الحال في رحلة العمر، فالذي ينشغل بما يجري حوله أكثر من تركيزه على طريقه لن تخلو سكة حياته من صدامات مع الآخرين؛ تؤلمهم كما تؤلمه، علاوة على أن الوقت الثمين الذي يضيع من العمر والطاقة التي تُهدر لا يمكن تعويضهما. يقول الحكيم: «لِتَنْظُرْ عَيْنَاكَ إِلَى قُدَّامِكَ، وَأَجْفَانُكَ إِلَى أَمَامِكَ مُسْتَقِيمًا. مَهِّدْ سَبِيلَ رِجْلِكَ، فَتَثْبُتَ كُلُّ طُرُقِكَ. لاَ تَمِلْ يَمْنَةً وَلاَ يَسْرَةً. بَاعِدْ رِجْلَكَ عَنِ الشَّرِّ» (أمثال4: 25 27).
التشتيت هو تكتيك خطير من العدو الماكر
الكتاب المقدس يعلِّمنا أن الشيطان خصم يسعى لتدمير حياة المؤمنين، ونصحنا ألا نجهل خططه. التشتيت هو أحد خطط الشيطان التي يتبعها مع المؤمنين كي يجعل حياتهم بلا معنى ولا تأثير. التشتيت المقصود هنا ليس مجرد سهام يصوِّبها الشيطان وينصرف؛ كسهام التخويف أو التشكيك مثلاً، ولا حتى أقصد سرحان الفكر أو المشغولية بأشياء تافهة أثناء الاجتماعات... الخ. إنما الموضوع أخطر من ذلك، فالعدو لديه برامج للتشتيت، تنفيذها يستغرق سنوات، وثبت له نجاحها مع البشر على المدى البعيد. كما أن الأدوات التي يستخدمها هذه الأيام أصبحت أكثر خِداعًا وتنوعًا عن أي عصر مضى. أذكر بعض الأمثلة لنتحذر منها:
1. إفراط المشغولية بما يجري في حياة الآخرين.
ما رأيك في شخص يقود سيارته وطول الوقت مشغول بالنظر والتعليق على السيارات الأخرى. هذه سيارة فخمة وكاملة الامكانيات وهذه سيئة وقديمة، هذا يعطل طريقي وذاك غشيم في قيادته ويقوم بمخالفات... وهكذا بنفس الطريقة يفعل، الشخص الذي ينخرط في تقييم حياة الآخرين، فيُعجب بالبعض منهم ويختار منهم أبطالاً يفتخر بأنه من المعجبين بشخصياتهم والمغرمين بأدائهم، بينما من جانب آخر يرى أخطاء فريق آخر فيوجِّه طاقاته وإمكانياته للتنديد بتصرفاتهم وتقصيراتهم. الطامة الكبرى إن كان حوله مؤيدين يعطونه إيحاء أنه رائد لحركة إصلاح تستحق أن يوقف حياته من أجلها. السنين تجري وهو لا يدري أنه قضاها في مشاهدات وانتقادات لا تُجدي ولا تبني، وأن حياته تسير بدون هدف واضح يسعى لتحقيقه، لأنها ابتُلعت وذابت في دوامة مشاهدة الآخرين. لم يَنَل سوى الإشباع النفسي الوقتي في لحظات كان يستقي فيها النشوة من أهداف وهمية شتَّتت نظره عن خطة الله الشخصية له. بذلك يكون العدو الماكر نجح في أن يجعله يخسر أثمن ما في حياته وهو أن يتمم ما يريده الله منه.
2. تركيز النظر على الأحداث الجارية بمنظار المنطق.
الشعور بعدم استقرار البلد، والرعب من جماعات الشر والإرهاب، سببت هوسًا عند كثير من الناس. يتوقع البعض تغييرًا واعدًا، والبعض لم يزل محبطًا مغلوبًا على أمره. ماذا يمكن أن أفعل لأنجو بمستقبلي؟ كيف سأشق طريقي وسط هذه التحديات الكثيرة؟ أنظر ماذا فعل فلان أو علان؟
بالنسبة لعدد ليس بقليل من الشباب، هذه ليست مجرد تساؤلات بقدر كونها بذور محاولات جادة للبحث عن منافذ للهروب من واقع غير مرغوب وغير آمن (بالمنطق البشري) أوغير مريح. مع الأيام تتمخض هذه التساؤلات (أو قُل الحسابات) لتُنتج قرارات، بل خطوات مصيرية، تُتخذ بدون مصادقة من الرب، على حساب أثمن غرض في الحياة وهو الشهادة للرب.
هذا التكتيك الرهيب يستخدمه الشيطان مع كثيرين ليستبعدوا قصد الله من وجودهم في بلادهم في هذا التوقيت بالتحديد من التاريخ. من الأدوات التي يستعملها العدو بمكر أن يجعل الشاب المؤمن يقيِّم ظروف الحياة بمقاييس غير المؤمنين. نتيجة لذلك يحيد عن الطريق الخاص به الذي قصد له الرب أن يسير فيها، وينجرف في تيار “منطق البشر” ليلحق بالقطار الذي يستقله الأغلبية.
3. الانجذاب لوسائل تسلية تنهب أثمن سنوات العمر.
وسائل الميديا تطورت كثيرًا وشبكات التواصل الاجتماعي على وجه العموم أصبحت أكثرهم استخدامًا وأقواهم تأثيرًا بين الشباب. الفيسبوك اليوم أصبح رائدًا في هذا المجال، لكنه في حقيقة الأمر لم يعُد فقط وسيلة تواصل، لكن في الواقع يمثِّل تشكيلة من أشياء متعدِّدة ومتجدِّدة؛ منابر ومتاجر، مسارح وملاعب وتسالي تناسب كل الاعمار والأذواق... الخ. كل هذه الأمور لها جاذبيتها التي يصعب مقاومتها. اخترقت أوقات العمل والراحة والدراسة، بل أوقات العبادة أيضًا!! ساعات تُقضى في سراياها وسراديبها، وهكذا تُنهب تدريجيًا أيام بل سنوات العمر. انتبه لئلا تُبتَلَع حياتك بها وتُدمنها؛ فهذا النوع من الطفيليات إن تمكَّن من حياة شخص، التهم أثمن ما لديه وتتركه هزيلاً، والأخطر أنها تشوِّش بل تسود أحيانًا على الفكر والمشاعر.
صديقي الشاب : “لا تنشغل بغير الطريق”، وإن حِدتَ عن طريقك، الجأ إلى الرب لأنه يقدر أن يصحِّح مسارات حياتك. «فِي كُلِّ طُرُقِكَ اعْرِفْهُ، وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ» (أمثال3: 6) «عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلهِي. رُوحُكَ الصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ» (مزمور143: 10).