بعد أن استعرضنا ملامح وخصائص الجسد، وأساليب عمله وخطورته، وكيف أنه فاسد ونشيط نحو الخطية وفعل الإرادة الذاتية، وفي نفس الوقت عاجز تمامًا عن فعل إرادة الله، نتحدث الآن عن كيفية مواجهته والتعامل معه.
وفي البداية لكي نأخذ الموقف الصحيح يجب أن نعرف فكر الله في المكتوب من جهة الجسد، وكيف أنه يرفضه ويدينه في كل صوره، سواء في العهد القديم أو الجديد.
ففي تاريخ إبراهيم، نقرأ عن نشاط الجسد الذي أتى بإسماعيل (تكوين16). لكن الرب رفض هذا ولم يَقبَله، وبعد 13 سنة من الصمت الإلهي ظهر له الرب، وهو ابن 99 سنة، وقد صار مُماتًا، وقال له: «أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملاً» (تكوين17: 1). مما يدل على أنه، عندما تصرَّف بالجسد، لم يكن سائرًا أمام الرب، ولم يكن كاملاً. وفي نفس الأصحاح نقرأ عن الأمر الإلهي له بالختان هو وكل ذكر في عائلته. والختان هو قَطع جزء من الجسد حرفيًا، وهو شيء مؤلم بلا شك. والدرس الروحي في هذا الرمز هو الحكم على الجسد وإدانته ورفضه، وبالتأكيد أن هذا سيقترن بالألم.
وقبل الخروج من مصر، نقرأ أن الرب التقى موسى وطلب أن يقتله لأنه تهاون في ختان ابنه، فأسرعت صفورة وأخذت صوانة وقطعت غرلة ابنها، فانفك عنه (خروج4: 24-26). وكان الرب يريد أن يؤكِّد لموسى ضرورة الحكم على الجسد، وأنه لا يقبل مُطلقًا أي مهادنة معه، وأن من سيستخدمه يجب أن يراعي مطاليب قداسة الله أولاً.
وفي رحلة شعب الله بعد خروجهم من مصر وعبورهم البحر الأحمر، يظهر عدو آخر بخلاف فرعون هو عماليق، فنقرأ القول: «وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم، فقال موسى ليشوع انتخب لنا رجالاً واخرج حارب عماليق ... فهزم يشوع عماليق بحد السيف ... فإني سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء ... للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور» (خروج17: 8-16). وعماليق صورة للجسد بشهواته التي تحارب النفس (1بطرس2: 11)، أو الجسد الذي يشتهي ضد الروح (غلاطية5: 17).
وفي سفر يشوع، بعد أن دخل إسرائيل أرض الموعد، نقرأ أنهم حَلّوا في الجلجال، وهناك قال الرب ليشوع: «اصنع سكاكين من صوان وعُد اختن الشعب»، لأن جميع الذكور الذين ولدوا في البرية لم يختنوا، وبعد ذلك قال الرب ليشوع: «اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر» (يش5: 2-9). وفي حروب شعب الرب لامتلاك الأرض بقيادة يشوع، كان الشعب يخرج من الجلجال ويعود بعد النصرة إلى الجلجال. والجلجال المرتبط بالختان يعني الاتضاع أمام الرب والحكم على الجسد وإدانته.
ويبدأ تاريخ مملكة إسرائيل بأول ملك اختاره الشعب وهو شاول الذي يُمثِّل الجسد، ونرى بوضوح كيف فشل شاول فشلاً ذريعًا في قيادة شعب الرب، وفي صنع إرادة الله، ولا سيما في القضاء على عماليق، حيث عفا عن أجاج ملك عماليق، وعفا عن خيار الغنم والبقر، وكذب على صموئيل، وألقى التهمة على الشعب (1صموئيل15). ولأنه رفض كلام الرب قد رفضه الرب. وعندما ناح صموئيل على شاول، قال له الرب: «حتى متى تنوح على شاول وأنا قد رفضته» (1صموئيل16: 1). وبذلك أعلن الرب فِكرَه الواضح من جهة الجسد، ورفضه الكامل له. وهذا أمر ثابت في كل الكتاب، وبناء عليه يجب أن نرفض نحن أيضًا الجسد ولا نتساهل معه.
ولأن الجسد فاسد وعديم الشفاء ولا يُرجى منه أي خير أو إصلاح، وهذا ما قاله بولس: «إني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح» (رومية7: 18)، لهذا فإن العلاج الوحيد له هو الصليب. «فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد» (رومية8: 3). أي أن الله دان الطبيعة القديمة التي فينا في صليب المسيح، وهذا تمّ شَرعًا يوم مات المسيح. وعمليًا يقول الرسول: «الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات» (غلاطية5: 24)، أي يضعون الجسد في حُكم الموت، مصادقين على ما فعله الله في الصليب. وهذا ما فعله بولس وهو يركض في السباق في ميدان الخدمة، ويضبط نفسه في كل شيء، ويخاف أن يعطِّله الجسد، فقال: «أقمع جسدي وأستعبده» (1كورنثوس9: 27).
والمؤمن قد مات شَرعًا في صليب المسيح فتحرَّر من سيادة الخطية الساكنة فيه، والتي كانت تُسيطر عليه وتستعبده. لهذا يقول الرسول: إننا «لسنا مديونين للجسد لنعيش حسب الجسد» (رومية8: 12)، أي أننا لسنا تحت التزام أن نُرضي رغبات الجسد ونعمل إرادته، بل نعمل إرادة الله بقوة الروح القدس. ولكن هذا ليس سهلاً فهو يتطلب موقفًا صَلبًا للغاية ضد رغبات الجسد ونداءاته.
ونحن لسنا مطالبين أن نحارب الجسد الذي فينا بشهواته، بل أن نمتنع عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس (1بطرس2: 11)، أي أن الشهوات هي التي تحاربنا، ونحن علينا ألا نتجاوب معها. فالتحريض سلبي لكي نمتنع عن الشهوات. كذلك يقول بولس لتيموثاوس: «أما الشهوات الشبابية فاهرب منها» (2تيموثاوس2: 22). فقضيتنا الأساسية هي أن نحارب المحاربة الحسنة ونحقِّق نجاحات روحية إيجابية في النمو في النعمة وفي معرفة ربنا يسوع المسيح، فنتغيَّر ونصبح أكثر تشبهًا به، ونجاحات في الشهادة للعالم عن المسيح الذي لم يعرفوه، ونجاحات في الخدمة وحياة البر وفعل إرادة الله والخضوع لمشيئته، واختبار ما هو مرضي عنده. هذا هو مسارنا الطبيعي الذي به نمجِّد الله إيجابيًا وليس سلبيًا. لكن الجسد دائمًا هو الذي يحارب كل رغبة مقدَّسة فينا ويحاول جاهدًا أن يُعيق تقدُّمنا ويُحوِّل مسارنا إلى فعل الخطية والإرادة الذاتية. وهذا ما قاله الرسول: «لأن الجسد يشتهي ضد الروح، والروح (يقف) ضد الجسد» (غلاطية5: 17).
وللحديث بقية إذا شاء الرب