بعد رجوع يوسف والصبي يسوع وأمه من مصر إلى أرض إسرائيل سكنوا في مدينة الناصرة. «وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ»، أي ليذبحوا خروف الفصح (تثنية16: 7، 16) ويأكلوه مطبوخًا ويتذكروا عبور الدينونة عن أبكارهم على أساس رش الدم على العتبة العليا والقائمتين، ثم خروجهم من أرض العبودية مصر إلى البرية بعد عبورهم البحر الأحمر.
«وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا».
كان ليوسف ومريم أقرباء ومعارف وأصدقاء، وعندما انتهوا من كل شيء أخذوا الطريق إلى بوابة المدينة متجهين شَمالاً، ولم يتحقَّقا أن الصبي معهما، اعتبروا أن الأمر مُسلَّم به.
لقد ظنَّاه بين الرفقة، وكان المسافرون يسيرون على قافلتين، إحداهما للنساء في المقدمة، والثانية للرجال في المؤخرة، وكان الصغار يسيرون في الوسط معًا، تارة يذهبون إلى أمهاتهم في المقدمة، وتارة أخرى إلى آبائهم في المؤخرة.
انقضى اليوم الأول في العودة إلى الناصرة واقتربت القافلتان من بعض، ألتقى يوسف بمريم، وكل منهما يسأل الآخر عن الصبي، إذ حسب كل منهما أنه مع الآخر. وبقيا يومًا ثانيًا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف. «وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ».
تخيل معي اختفاء صبي عن والديه ثلاثة أيام! كَمّ المعاناة والانزعاج، القلق والعذاب، التعب في البحث عنه في كل مكان، الشعور بالتقصير والإهمال، ملامة الضمير، وربما سمعا لومًا من الأقرباء والمعارف.
كتب رجل الله أيرونسايد خدمة بعنوان: “المسيح المفقود”، جاء فيها “لقد ظنَّا أن يسوع بين الرفقة، ولكنه لم يكن معهم. كثير من المسيحيين يظنون أن المسيح معهم، ولكنهم يكتشفون أنه ليس معهم. يظنون أنهم عندما يسلكون بحسب طقوسهم وفرائضهم أنه معهم، ولكنه غائب عنهم، ولا يتمتعون بحضوره المبارك. ولكن إذا رغبوه من قلوبهم وبحثوا عنه فإنهم يجدونه ويتمتعون بحضوره معهم. كما أنه من الممكن أن يحضر المؤمنون الاجتماعات الروحية، ويفكِّرون في كل شيء صحيح، ويُقدِّمون خدمات كتابية، لكن بالإنفصال عنه، فإنهم لا يتمتعون بحضوره”.
كان الصبي يسوع في قمة الذوق الرفيع، جالسًا في وسط المعلمين يسمعهم أولاً ثم يسألهم، لم يجلس وسط المعلمين ليعلِّمهم بل ليسمعهم، ثم يسأل ويجاوب. لم يترك مكانه كصبي بل سلك بالإتضاع. «وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ»، لأن كلماته كانت مثل «تفاح من ذهب في مصوغ من فضة» (أمثال25: 11).
اندهش يوسف ومريم حين وجدا الصبي يسوع في الهيكل جالسًا في وسط المعلمين الأكبر منه سنًا، واختلط في قلب أمه الألم والحيرة لفراقه، والسرور بلقائه. تكلَّمت بعواطف الأمومة وعبَّرت عن خشيتها عليه وأيضًا عذابهما وقالت له: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!». أعطت مريم كرامة لرجلها فذكرته قبل نفسها: «أبوك وأنا»، ولكنها نسيت أنها أمام ابن الله.
كان رد الصبي يسوع لهما صاعقًا: «فَقَالَ لَهُمَا: “لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟”». وهي أول عبارة يسجلها الوحي عنه في الكتاب المقدس، حيث نفى علاقته بيوسف كأبيه بحسب ظن الناس، وأعلن عن ارتباطه بابيه السماوي وأنه جاء ليفعل إرادته بسرور، وأنه في المكان الصحيح، «في ما لأبيه» أي الهيكل الذي يمثّل حضور الله وسط شعبه، وهو بيت أبيه على الأرض في ذلك الوقت.
لم يَقُل يوسف شيئًا، ولم يسجِّل لنا الكتاب أي كلمات له، بالتأكيد كان زوجًا مثاليًا للمطوَّبة مريم، وكان الأب الشرعي للصبي يسوع، وكان دائمًا يريد أن يفعل الأشياء الصحيحة (متى1: 19).
اختفاء المسيح عن يوسف ومريم ثلاثة أيام تشير إلى مدة دفن المسيح واختفائه عن التلاميذ والمؤمنين ثلاثة أيام، لكن بعد القيامة ظهر لهم. كانت مريم ويوسف معذَّبين في هذه الفترة، وكان التلاميذ يبكون وينوحون. يوسف ومريم وجداه في الهيكل في وسط المعلمين، والتلاميذ رأوه في العلّية حيث جاء ووقف في وسطهم.
«فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا»: كان كلام الصبي يسوع أعلى وأسمى من تفكيرهما، لقد حلق في الأعالي وتكلم مع أبيه. لم تَصِل مريم إلى المعرفة الكاملة بشأن شخصه وعمله إلا بعد موته وقيامته وصعوده إلى السماء وإرسال الروح القدس في يوم الخمسين كما على جميع المؤمنين.
بالرغم من عدم فهمها للكلام الذي قاله ولكنها كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها (لوقا2: 51).
«ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا». مع أنه خالق الكون لكنه رضي أن يكون ولدًا في عائلة مُتضعة، وكم جلب السرور لأمه بطاعته وخضوعه.
حُرمت مريم من المسيح ثلاثة أيام عند بقاءه في الهيكل، وحُرمت منه ثلاثة سنوات أثناء خدمته التجوالية، وحُرمت منه ثلاثة أيام عند موته ودفنه حتى قام من الأموات.
أخي.. أختي.. هل لك علاقة حقيقية مع الرب يسوع أم إنك محروم منه؟ إن معرفة الرب يسوع كالمخلِّص تجعلك مغفور الإثم بدمه الذي سُفك لأجلك على الصليب. كذلك المؤمن الذي تنقطع شركته مع الرب يعيش مُعذَّبًا. عندما أخطأ داود ولم يعترف بخطيته شعر بالجفاف الروحي، لذلك قال: «لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ، لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَارًا وَلَيْلاً. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ» (مزمور32: 3، 4)، ولكن بعد اعترافه بخطيته للرب رجع له الفرح.
ليتنا نكون في شركة مستمرة مع الرب، ونشتاق للوجود معه، فنقول مع المرنم: «كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ؟» (مزمور42: 1، 2).