قد تندهش معي صديقي من هذه الظاهرة: أنه كلما تديَّن الإنسان أكثر، أصبح إرهابيًا أخطر!! وذلك ليس بجديد يا عزيزي، فمنذ فجر التاريخ كان هذا موجودًا؟!!
فإن كان التدين يزيد الإرهاب في النفوس، فما أروع عمل المسيح في النفوس، إنه يحوِّل الإرهابي وديعًا، نعم إن المسيح هو الوديع الوحيد الأعظم، لذلك قال «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم» (متى11: 29).
إننا في حاجة ماسة إلى هذه الفضيلة - أقصد الوداعة - في عالم قد توحَّش جدًا، مع الاعتذار الشديد للوحوش!!
أولاً: ما هو التدين؟
1. التدين، هو التمسك بعقائد وفرائض وممارسات يعملها ويعتنقها مجموعة من الناس، وهذا يجعل الإنسان تحت إلتزام شديد منه، محاولاً تطبيق قواعد ونصوص هذه الديانة رغمًا عنه! ورويدًا رويدًا يتحوَّل الإنسان إلى متديّنٍ بالمظهر فقط، ويبقى داخله نجسًا كريهًا! ووصف المسيح المتدينين بالقول «تشبهون قبورًا مُبيَّضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة» (متى23: 27).
2. الدين يحاول أن يزوِّدنا بشيء في أيدينا لنقدِّمه ونعمله، لعلنا نحصل على رضا الإله، ولعله يأخذنا إلى سماه. إن كل ما يقدِّمه الدين مبنٍ على الظنون والتكهنات والأمنيات، لا باليقينيات. وبالإجمال يقود الدين إلى تسكين واهٍ للضمير، والانفصال بعيدًا عن الله الحي الحقيقي، زمنيًا وأبديًا.
3. إن المسيح جاء لا ليكون لنا دين أو نصبح متدينون!! بل ”ليكون لنا حياة“ فقال «تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات (كل خاطئ) صوت ابن الله والسامعون يحيون» (يوحنا5: 25). فكل من يقبل المسيح ويسكن فيه يعطيه المسيح طبيعة إلهية جديدة، ويحيا داخليًا، ولا يُسمّى متدينًا بل مولودًا من الله أو «شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد» (2بطرس1: 4).
ثانيًا: ما هي علاقة التدين بالإرهاب والوحشية؟
1. التدين هو تغيير في القشرة الخارجية للإنسان، وليس تغييرًا عميقًا في طباعه وأخلاقه وروحه، فالتدين قد يغيّر من شكل ملبسه وألفاظ كلامه وملامح وجهه، ويبقى القلب النجيس نجيسًا، ويبقى الطباع الشرسة كما هي!!
2. كان قايين ابن آدم أول متدين، ثم قتل أخاه هابيل!! وكان شاول الطرسوسي متديِّنًا يهوديًا، لكنه كان إرهابيًا ينفث تهدُّدًا وقتلاً، بل كان راضيًا بقتل البريء استفانوس شهيد المسيحية الأول!!
3. يظَلّ المتدين بعيدًا عن الله الحي الحقيقي، مخدوعًا من إبليس، بأنه أفضل جميع الناس على وجه الأرض، والخديعة الكبرى لإبليس القتال أنه يوجِّه المتدين لقتل الآخرين الذين يختلفون معه، ظانًا أنه بهذا العمل هو يقدِّم خدمة لله يستحق بها الآخرة الطيبة وما فيها من طيبات!! ألم يقل الرب يسوع هذا «بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدِّم خدمة لله» (يوحنا16: 2).
4. أخيرًا أقول، أن المتديِّن شخصًا مضطرب تحت ثقل الدين، مديون. إنه يريد أن يرضي الله ولا يستطيع بذاته، وهذا يجعله أكثر شراسة وكرهًا للآخرين ناقمًا عليهم. عكس الإيمان الحقيقي بكفارة المسيح وخلاصه يعطي غفرانًا للخطايا وراحة للضمير وحبًا للآخرين «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رومية5: 1).
ثالثًا: الوداعة مصدرها وملامحها
1. الوداعة: هي حالة قلب لا يطلب لنفسه، ولا يثأر لذاته، ولا يسيء لأحدٍ، وهذا ليس مظهرًا لإنسان ضعيف بل إظهارًا للقوة الإلهية.
2. يوجد مصدرًا واحدًا للوداعة وهو الله، وهذا يأتي للإنسان ببساطة عندما يسكن فيه الله!! فالمسيح هو مثال الوداعة، فقال عن نفسه «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب» (متى11: 29)، ووصفه الوحي بالقول «وداعة المسيح وحلمه» (2كورنثوس10: 1). والروح القدس يعمل في قلب المؤمن الحقيقي بالمسيح بثمر إلهي يسمّى بـ «ثمر الروح»، وواحدة من هذا الثمر هي الوداعة «وأما ثمر الروح فهو محبة... وداعة» (غلاطية5: 23).
3. والمثال الواضح الجلي للوداعة، تجده واضحًا في حياة المسيح، مع عظم قوته، لكنه لم ينتقم لنفسه «الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلِّم لمن يقضي بعدل» (1بطرس2: 23)، ولم يأخذ شيئًا اغتصبه لنفسه؛ فمغبوط عنده العطاء أكثر من الأخذ (أعمال20: 35)، ولم يذبح أحدًا بل مع قوته بكى عدة مرات مُظهرًا مشاعر الشفقة لمن حوله.
4. والوداعة ليست قاصرة على المسيح فقط، بل ظهرت أيضًا فيمن سكن فيهم المسيح وتبعوه. ها هو استفانوس يحيط به القتلة ليرجموه، فيصلي لأجلهم قائلاً «يا رب لا تُقم لهم هذه الخطية» (أعمال7: 60). كما أن الوحي الإلهي يصف المرأة المسيحية بأنها طاهرة مزينة بـ«زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن» (1بطرس3: 4).
أحبائي.. لقد نجح الشيطان أن يمتلك بعض الناس، ويحرِّكهم كالدُمى ويظهر فيهم كل شراسته، مخدِّرًا ضميرهم وخادعًا إياهم بالدين، ولكن شكرًا لله من أجل المسيح، النور الحقيقي الذي من يتبعه لا يمشي في الظلمة. والحياة الأبدية الراقية، المسيح الذي هو صورة الله غير المنظور، الذي فيه نرى كل أمجاد اللاهوت وسموه، بسكناه في قلب البشر وامتلاكه لحياتهم وأفكارهم يصبحون مثله، مشابهين صورته وطبيعته، في محبته ووداعته وسمو أخلاقياته.