يارب اقبل استقالتي

“يا رب: لا أنسى اليوم الذي فيه عرفتك وما زلت أذكر يوم دعوتني أنا ورفقائي لنعمل معك. أقر من قلبي أن الأعوام القليلة الماضية هي أمجد سني حياتي، ولا أنكر أنك مرارًا احتملت جهلي وتهوري، وبلطفك العجيب قوّمت سبلي وعالجتني، لكن عندما اُمتحِنَت قدراتي رسبت، وما حسبته نقاط قوة فيَّ، اكتشفت أنه الضعف بعينه. ربما رفقائي يصلحون للعمل معك أكثر مني، فهل تقبل يا رب إستقالتي؟”

الإقرار السابق هو تصوُّر لما تحتويه العبارة التي قالها بطرس لبعض التلاميذ: «أنا أذهب لأتصيد» (يوحنا21: 3)، والتي تكشف عن مدى إحباطه وشعوره بالفشل وإحساسه بثقل الذنب وعدم استحقاقه لخدمة سيده.

غربال التجربة بين غرض العدو والمقاصد الإلهية

كلمة الله تعلِّمنا أن المؤمن الحقيقي لا يمكن أبدًا أن يُحرم من خلاصه الأبدي، لكن يمكن أن يُحرم من بهجة الخلاص في حياته. لا يوجد ما يمنعه أن يخدم كيفما شاء، لكن يمكن أن تفتقر خدمته للقوة والتأثير. قد يحضر اجتماعات الكنيسة وقتما شاء لكن يمكن أن يُحرم من رؤية الرب. ويا لتعاسة هذا الحال!

أتعلم أن هذه الحالة هي هدف رئيسي وراء تجارب الشيطان للمؤمنين؟ حينما ينحرف المؤمن عن سبيل القداسة، تتسلل العتمة لحياته شيئًا فشيئًا، فتنطفئ شهادته للرب، وتتشوه علاقاته مع الناس، وتُسلَب أفراحه وسلامه. من أجل ذلك يسعى هذا الخصم الرديء أن يوقع المؤمن في فخ الخطية ليقطع شركته مع الله، ولا يكف عن أن يصوب سهام الإحباط الحارقة للمؤمن العاثر، ليظل خائرًا حتى يستسلم لروح الفشل. لكن الرب في نعمته، كالراعي، يَرُدّ الشاردة من قطيعه، وكالطبيب الماهر يعرف كيف يعالج الفشل في حياة المؤمن العاثر، ويقيمه مرة أخرى من سقطته.

أخصائي في إنهاض العاثرين

يا لغبطتنا بهذا الراعي العظيم الذي ترنم عنه داود: «الرب عاضد كل الساقطين ومقوِّم كل المنحنين‎» (مزمور145: 14). الكتاب المقدس يرينا من خلال معاملات الله مع بعض المؤمنين الذين عثروا في سيرهم معه، كيف يردّ الرب نفوسهم بترَّفُق ولطف، وحكمة تفوق الوصف. في العهد القديم نرى ذلك واضحًا في حياة يعقوب وداود، وفي العهد الجديد نرى المسيح وهو يرد نفوس بعض من تلاميذه مثل توما وبطرس وتلميذي عمواس. عندما سقط بطرس، ذلك التلميذ المِقدام، بدا للشيطان أنه قد بلغ مقصده الذي أراد به أن يروي غليله وهو يهز غربال التجربة بكل عنف وغيظ. غرض الشيطان أن يوقع الحنطة وتُداس، لكن قصد الرب بوقوعها أن تتنقى من كل شائبة. الرب في حكمته جعل من غربلة الشيطان فرصة ليعلم تلميذه أثمن الدروس، ويظهر نعمته وقدرته على رد النفوس. ليس غرضي أن أركز على الخطإ أو المخطئ بل على سيدنا الرحيم وأسلوبه الراقي والرقيق في إقامة العاثرين. «الرب صالح ومستقيم. لذلك يعلّم الخطاة الطريق‎. ‎يدرب الودعاء في الحق ويعلم الودعاء طرق» (مزمور25: 8، 9).

الطبيب الماهر وروشتة العلاج

إن تأملنا في الأصحاحات (مرقس16؛ لوقا22؛ يوحنا21) يمكننا أن نتتبع معًا الأسلوب الذي تعامل به الرب، ذلك الطبيب الماهر، في علاج حالة من الفشل الذريع أصيب بها بطرس. هذه المعاملات الإلهية في العلاج كأنها “روشتة من أربع أدوية”. دعونا نتأمل معًا في كل دواء (أسلوب) استخدمه ربنا يسوع، الطبيب العظيم مع تلميذه بطرس.

1. مؤازرة مبكِّرة

«الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت إخوتك» (لوقا22: 31، 32). تختلف هذه الخطوة على طريق العلاج عن الخطوات التالية في كونها قد سبقت “سقوط بطرس”. أي طبيب في العالم يصف الدواء لمريضه بعد الإصابة بالمرض، وهذا طبيعي، لكن الرب وحده، يعلم ما يخطط له العدو في الظلام؛ لذلك وصف مبكِّرًا لتلميذه الدواء الوقائي كتطعيم يحصِّنه ضد استفحال الداء. هذه من روائع طبيبنا السماوي العظيم. الرب يعلم أن هذه الأقوال المشجعة ستدعِّم وتؤازر بطرس وتحفظه من اليأس فور وقوعه من غربال التجربة. لم يزل الرب يفعل ذلك معنا إذ يوصينا بذات الوصية التي قالها لتلاميذه لكي يمكننا من الثبات وقت التجربة في البستان قائلاً: «قوموا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة» (لوقا22: 46).

2. نظرة مذكِّرة

«فالتفت الرب ونظر إلى بطرس. فتذكر بطرس كلام الرب...« (لوقا22: 61). قصد الرب أن ينظر لبطرس ليذكِّره بالكلام الذي قاله له من ساعات قليلة مضت، أراد أن يكشف له عن ثقته الزائدة في ذاته. لكن ليذكِّره أيضًا بأن هذه الغربلة العنيفة وراءها خصم شرير وهو الشيطان. نظرة تذكِّره بطلب الرب من أجله لئلا يفنى إيمانه. لم يزل الرب ينظر لكل مؤمن متعثر لا من بيت رئيس الكهنة (حيث كان وقت أن أنكره بطرس) بل ينظر من مجده، لا ليعاقبنا بل ليتوِّبنا؛ مذكرًا إيانا بأنه يعلم محدودية أنفسنا وحاجتنا أن نستند على نعمته.

3. بشارة مؤثِّرة

«لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس أنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم» (مرقس16: 7). الرب يكلِّف الملاك بتوصيل تلك الرسالة المؤثِّرة إلى النساء اللاتي أتين إلى القبر ثم يذهبن بدورهن ليبلغن التلاميذ. كأن الرب أراد أن يعرف بطرس على مسمع من الجميع أنه لم يزل يحتفظ بمكانته كتلميذ للمسيح، وهو موضوع اهتمامه. يا لها من بشارة أنعشت الرجاء في قلبه المنكسر.

4. زيارة مغيرِّة.

أظهر الرب نفسه للتلاميذ عند بحر طبرية، ووضح أن بطرس هو المقصود. بعد أن شجعهم وأشبعهم أسمعهم حديثه الرقيق مع بطرس. في أي موضوع تكلم الرب معه؟ تكلم معه عن الحب! يا لنعمة الرب المترفقة التي شفى الرب فيها قلب تلميذه المكسور، وردَّ نفسه، وشرَّفه بتكليف عظيم أن يرعى غنمه. وتغيَّر بطرس من حينها، ولا نقرأ بعد ذلك عن السقطات ولا الإحباطات، بل نرى الشهادة القوية والشجاعة المقدسة بالاستناد على نعمة الله وعمل الروح القدس، وأظهر طاعة كاملة للوصيتين الغاليتين «ثبِّت إخوتك» و«ارعى خرافي».

وما فعله الرب يومًا مع بطرس ما زال يفعله معنا!