كان للمطوبة مريم علاقات طيبة مع الأقرباء والمعارف والجيران، ولذلك عندما كان حفل زفاف في قانا الجليل، نجدها هناك مشاركةً، حيث يذكر الكتاب: «وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ» (يوحنا2: 1). كان حضورها مؤثِّرًا، فلقد جاءت لتقدِّم المساعدة في هذا اليوم الطيب الذي فيه عائلة العريس عليها مسؤوليات كثيرة.
ينفرد يوحنا بذكر حادثتين مرتبطتين بالمطوبة مريم لم تُذكرا في الأناجيل الأخرى وهما: حضورها في عرس قانا الجليل، ووقوفها عند الصليب (يوحنا2: 2؛ 19: 25)، المرة الأولى في بداية خدمة الرب على الأرض، والثانية في نهاية حياته؛ مرة مرتبطة بالفرح والأخرى مرتبطة بالحزن؛ في المرة الأولى تكلَّمت إلى الرب والخدّام، لكن في الثانية كانت صامتة من الحزن؛ لكن في كليهما تحدث الرب إليها قائلاً لها: «يا امرأة» (يوحنا2: 4؛ 19: 26).
«وَدُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ» (يوحنا2: 2)
اتخذ أصحاب هذا العرس قرارًا حكيمًا بدعوتهم للمسيح لحضور هذا العُرس، وجميل أن ندعو الرب في كل مكان نذهب إليه، فوجوده معنا مرتبط بالبركة والأفراح والتعزية، وعند حدوث أي مشكلة فسوف يتدخل ويحلها.
لاحظت المطوبة مريم أن الخمر قد فرغت، وهذا سيُسبِّب الحرج للعريس والعروس والعائلتين، والضيق للمدعوين، لذلك شعرت بالمسؤولية، فذهبت إلى ابنها يسوع وعرضت عليه المشكلة، إذ قالت له: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ».
كانت تثق أنه قادر على حل المشكلة، وتعلم أنه ابن العلي، وتؤمن بقدرته الإلهيه، مع أنها لم ترَه يعمل معجزة من قبل. لقد سبق إيمانها إيمان التلاميذ، لأن التلاميذ آمنوا به بعد المعجزة (يوحنا2: 11).
والخمر (وحرفيًا يعني عصير العنب) في الكتاب رمز الفرح (مزمور104: 15)، ولكن في هذا العُرس فرغت الخمر، أي انتهت أفراحهم، فالإنسان بدون المسيح هو إنسان حزين، لا فرح له.
عندما قالت للرب: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ»، يظهر وكأنها تمارس سلطانها كأم باقتراح ما يجب أن يعمله في مثل هذه الظروف، وربما أرادت لأبنها أن يُعلن ذاته ومجده للضيوف، لذلك قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»، والتعبير: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ؟» هو تعبير مجازي معناه: ما هو الشيء المشترك بيني وبينك؟ والجواب هو لا شيء.
لقد أخبرها من ثمانية عشر سنة: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يكُونَ فِي مَا لأَبِيه، وبالتالي هو أتى ليفعل لا إرادة البشر بل إرادة أبيه وفي توقيت الآب.
نلاحظ أنه لا يقول لها يا أمي، بل «يا امرأة»، لأنه عندما يبدأ خدمته، كان لا بد أن ينفصل عن هذه العلاقة الطبيعية، لكي تكون خدمته طبقًا لمشيئة الاب.
كثيرون يتعجبون لماذا ناداها «يا امرأة»؟ إن لفظ امرأة يدل على التقدير والإحترام، وهذا اللقب كان شائعًا في ذلك الوقت.
«لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»
إنها ساعة إظهار مجده أمام تلاميذه والحاضرين.
أدركت المطوَّبة أنه لا بد أن يفعل شيئًا ليسدِّد هذا الإحتياج، لذلك أوصت الخدام بطاعة لا تقبل الجدال، فقالت لهم: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ» (يوحنا2: 5).
إنها نصيحة غالية قدَّمتها للخدّام وهي مقدَّمة لنا أيضًا، أن نطيع وصاياه، وهذا ما قاله الرب يسوع لتلاميذه: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ».
وجَّهت أم يسوع نظر الخدام إليه، لأنه صاحب السلطان، وهذا ما يجب أن نفعله نحن مع كل النفوس؛ فالخاطئ محتاج إليه لكي يخلص، والمؤمن محتاج إلى إرشاده، والخدام ينتظرون توجيهاته.
آخر كلمات سُجِّل أن أم يسوع نطقت بها، في الكتاب المقدس، هي: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ»، بعدها صمتت منتظرة شخصه الكريم كابن الله ليعلن مجده، انتظرت حتى رأت المعجزة تتحقق بتحويل الماء إلى خمر، وبذلك كانت شاهدة لبداية الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل.
«وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ» (يوحنا2: 6).
كان اليهود يستخدمون ماء هذه الأجران في التطهير من أي نجاسة طقسية.
هذه الأجران الفارغة المصنوعة من الحجارة صورة للإنسان الطبيعي، فالإنسان بدون المسيح هو ناقص وفارغ، بدون ثمر لله وبارد، قلبه قاسٍ وبعيد عن الله.
لكن عندما أتى المسيح إلى هذه الأجران قال: «امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً. فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ» (يوحنا2: 7)، فتغيَّر حالها وصارت نافعة ومثمرة وممتلئة بالخمر، فالخاطئ عندما يأتي إلى المسيح فإنه يتغير ويصبح مثمرًا ونافعًا ومؤثِّرًا وقلبه ممتلئ بالفرح.
الماء رمز لكلمة الله والخمر رمز للأفراح، فالخاطئ يُولد بكلمة الله (يعقوب1: 18؛ 1بطرس1: 23) ثم يفرح، والمؤمن عندما تسكن فيه كلمة المسيح بغنى فإنها تتحول في داخله إلى تعزيات، ويمتلئ بالفرح ويغني أغاني روحية (كولوسي3: 16).
بعد أن حدثت المعجزة، قال الرب للخدام: «اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ. فَقَدَّمُوا»، على خدام المسيح أن يُحضروا الأفراح الإلهية لقلوب الآخرين عن طريق كلمة الله.
«فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْرًا، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ، لكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا» (يوحنا2: 9).
رئيس المتكإ هو الشخص المسؤول عن الإشراف على إعداد سُفر الطعام والخمر، وما أن ذاق ما قُدِّم له من الخمر حتى تحقَّق أن شيئًا غير معتادٍ قد حدث.
علم الخدام ما لم يعلمه رئيس المتكإ، وهو أن الماء قد تحوَّل إلى خمر، وذلك لأنهم كانوا قريبين من الرب، والذين يكونون قريبين من الرب لا بد أن يعرفوا أفكاره (مزمور25: 14).
«دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ وَقَالَ لَهُ: كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ!» (يوحنا2: 9، 10).
نجد هنا فرقًا بين طرق الإنسان وطرق الله، مبدأ العالم أنه يقدِّم الشيء الحسن أولاً وبعد ذلك الرديء، يجذب الشباب إلى الخطية وملذاتها، ثم يقدِّم الرديء والمدمِّر لهم، فتضيع حياتهم الزمنية في الباطل ثم يهلكوا أبديًا، لكن الله يعمل العكس إذ يضع المؤمن في البرية أولاً حيت الأتعاب والآلام، ثم بعد ذلك الأمجاد في بيت الآب.
أخي.. أختي.. ليتنا نتعلم من المطوبة مريم أن نشارك الآخرين في أفراحهم، وعندما تواجهنا أي مشكلة نتوجه مباشرة إلى الرب يسوع، ونثق أنه قادر على حلها، وأيضًا نشجع الآخرين على طاعة وصاياه.