كان للأحداث السياسية مؤخرًا حولنا، تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على البعض، حيث نتج عنها حالة من التمرد والاعتراض على كل شيء، ظنًّا منهم أن هذا هو الطريق الأمثل لأبداء الرأي أو السبيل للتغيير!
لكننى أريد أن أصرخ في هذا المقال محذِّرًا أخوتي، ولا سيما الشباب منهم، حتى لا ننزلق في هذا السبيل فنسلك دَربًا مخيفًا مرعبًا، ألا وهو التمرد، وحتى لا نكون قد ألقينا ورائنا فضيلة جميلة، وهي فضيلة الخضوع!
لذلك أرجوك أن تتأنى معي قارئي الكريم، ونحن نلقي نظرة فاحصةٌ على هذا الأمر، مصلّين معًا أن يحفظنا الرب من هذه الآفة المدمرة وليزرع فينا تلك الفضيلة الجميلة المثمرة!
أولاً: الفارق بين الاعتراض والتمرد
إنها لشجاعة أدبية وفضيلة مسيحية أننا لا نوافق على الخطإ أو نشترك في أعمال الظلمة غير المثمرة، لكن الاعتراض شيء والتمرد شيء آخر.
وإليك عزيزي موقفين من الكتاب المقدس لتوضيح هذا الفارق:
فعندما دخل المسيح الهيكل اعترض بشدة على أولئك الذين حوَّلوا الهيكل للتجارة، مُظهرًا هذا الاحتجاج بقوله «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة... إنه مكتوب غيرة بيتك أكلتني» (يوحنا2: 16، 17).
بينما قاد قورح مظاهرة احتجاجية ضد موسى وهارون، وبدون سبب منطقي لذلك، رافعًا شعار كاذب ليهيج الشعب معه صارخًا «فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب» (عدد16: 3). لكن لم يكن هذا اعتراضًا بل تمردًا.
فبينما كان اعتراض المسيح موضوعيًا حقيقيًا، مُعطيًا الأسباب المنطقية، كان اعتراض قورح مجرَّد افتراء كاذب، دون توضيح سببًا واحدًا منطقيًا، وفي الواقع كان يخفي وراء هذا الاحتجاج دوافع شريرة داخله.
إذًا فالاعتراض هو إظهار رفضي لموقف ما، معطيًا الأسباب المنطقية والكتابية لهذا الرفض، وبأسلوب مسيحي راق ٍ دون تجريح أو إيذاء لمشاعر الآخرين، مع اقتراح الحلول البديلة.
بينما التمرد هو رفض لمجرد الرفض، دون مناقشة بنَّاءه أو محاولة لاستماع الآخرين ولا سيما الأكبر سنًا. وقد يكون هذا التمرد هو نوع من الاسقاط النفسي لشحنه من الغضب الداخلي التي يفشل الشخص في التخلص منها. وأحيانًا أخرى، يكون التمرد غير مرتبط منطقيًا بموضوع؛ أي يكون رفض لكل شيء وأي شيء بدون سبب أو أي شيء!
ثانيًا: هل تعرف من هو أصل ومصدر التمرد؟!
التمرد ليس أمرًا جديدًا، بل قديم جدًا، بدأ مع كائن له مكانة كبيرة، واحد من أعظم المخلوقات التي خلقها الله، فلم يصل أحد غيره الى هذا المركز العالي في حضرة الله. حتى «وُجِدَ فيه إثم»، أي دخل الكبرياء والتمرد إلى قلبه. إنه الكروب المظلل، زهرة بنت الصبح، الملاك الذي أصبح الشيطان.
وقاده هذا التمرد إلى رغبة عارمة شريرة: «أصعد إلى السماوات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلي» (إشعياء14: 13، 14).
وما أرهب نتيجة تمرد هذا الشرير، يقول عنه الوحي: «كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح. كيف قُطِعت إلى الأرض يا قاهر الأمم... لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب» (إشعياء12: 12، 15).
وما أن سقط هذا المتمرِّد، ألا ودأب على زرع هذا التمرد في كل قلب يفتح له الباب لأنه هو «الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية»، وأصبح الإنسان للأسف نسخة متكررة من هذا المتمرد! يتمرد على كل شيء، حتى على الله خالقه، فتجده مرة يقول لله «أبعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر» (أيوب21: 14)، ومرة أخرى يبالغ في تمرده بأن يعمل ما لا يريده الله ويمتدح من يفعل مثله «لا يفعلونها فقط بل أيضًا يسرّون بالذين يعملون» (رومية1: 32).
وأعتقد عزيزي أنك لا ترغب أن تمشي فى هذا الركب الهالك! وأتمنى ذلك.
ثالثًا: الخضوع ومعناه الصحيح هل هو ضعف أم قوة؟!
الكلمة تعني، كما استُخدِمت في كلمة الله “أن تكون في الترتيب الموضوع لك”؛ فهي طاعة اختيارية وإرادية بتفهُّم عاقل لترتيب ونظام تم وضعه حولي ولخيري.
1. الرب يسوع المسيح كان مثالاً رائعًا للخضوع في تجسُّده، قيل عنه صبيًا «ثم نزل معهما (أبويه حسب الجسد) وجاء إلى الناصرة وكان خاضعا لهما» (لوقا2: 51)، وكان خضوعه الأعظم للآب في طيلة حياته فلم نَرَه مرة متمردًا «إني أحب الآب وكما أوصاني الآب هكذا أفعل» (يوحنا14: 31)، وفي نهاية حياته على الأرض قال «لتكن لا إرادتي بل إرادتك» (لوقا22: 42).
2. وكل من يلتصق بالمسيح، يأخذ من طبيعته وصفاته، فيصبح له طبيعة الطاعه لا التمرد، والخضوع لا العصيان، وهذا ما يؤكده الوحي «كأولاد الطاعة» (1بطرس1: 14)، وفي علاقتنا معًا يقول «خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله» (أفسس5: 21).
3. والخضوع يحتاج أن يعمل فينا الروح القدس فيكون لنا فكر المسيح الخاضع لله، لا فكر العالم المتمرد العاصي لله، حتى لا ننجرف للأفكار العالمية التي تشجِّع على التمرد، بل بالحري نتحكم فيها «ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح» (2كورنثوس10: 5).
4. الخضوع أيضًا هو مظهر من مظاهر القوة الروحية، لأنه يحتاج لفهم وتعقل وضبط النفس «البطيء الغضب خير من الجبار ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة» (أمثال16: 32).
رابعًا: خطورة التمرد
لنرجع إلى قصة تمرد قورح ومن معه على موسى وهارون، وحسب كلام الرب نفهم أنه تمرَّد على الرب نفسه.. لماذا.. وماذا حدث لهم؟؟
1. لم يتسلَّط موسى وهارون على شعب الرب كما أتهمهما قورح ومن معه.
2. الذي عينهما هو الرب، واحد للقيادة والآخر للكهنوت، فكان تمردهم ضد ترتيب الرب.
3. لم يكن لقورح احتياج معين ضروري عبَّر عنه وطلبه ولم ينَله، بل كان تمرُّده هو إفراز لشر قلبه.
4. كان قضاء الرب على هؤلاء المتمردين مرعبًا «وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الأموال. فنزلوا هم وكل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية وانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة» (عدد16: 32، 33).
نعم يقول الرب «إنما المتمردون يسكنون الرمضاء (مكان القفر والهلاك)» (مزمور68: 6).
أحبائي.. ما أبشع روح التمرد عندما يمتلَّك قلب إنسان، وما أصعب نتائجه المدمِّرة نفسيًا واجتماعيًا وأبديًا.. فما أحوجنا للخضوع للرب ولكلمته، ولكل نصيحة روحية تقدم لنا.
ليتنا نستمع إلى نصيحة الرسول بطرس «فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه» (1بطرس5: 6) وأيضًا كلمات الرسول يعقوب «فاخضعوا لله» (يعقوب4: 7)، وهذا يجلب لنا كثير من البركات، وأولها «فيرفعكم في حينه».
وللحديث بقية