في بعض الأحيان يكون من الأسهل علينا، في أحاديثنا، أن نستحضر إلى ذهن المُتَلَقِّي مثالاً حيًّا على الشيء الذي نريد أن نوضحه، فنقول: “شُفت واحد...؟” أو “عُمرَك شُفت واحد...؟”. هذا هو الأسلوب الذي استخدمه الحكيم في ثلاثة من أمثاله قائلاً: “أرأيتَ...؟”، وذلك ليلفت انتباهنا إلى ثلاثة أشياء مُهِمَّة؛ أولها فضيلة علينا جميعًا أن نتحلَّى بها، والاثنين الآخَرَيْن مِن الرذائل التي علينا أن نتحذَّر منها.
1. الاجتهاد
في المثل الأول يقول سليمان: «أَرَأَيْتَ رَجُلاً مُجْتَهِدًا فِي عَمَلِهِ؟ أَمَامَ الْمُلُوكِ يَقِفُ. لاَ يَقِفُ أَمَامَ الرَّعَاعِ!» (أمثال22: 29). الاجتهاد هو الاستعداد الداخلي لبذل الجهد في سبيل الوصول لهدفٍ مُحتَرَم أسعى إليه. وهو قيمة مُحَبَّبة وشائعة في كلمة الله، وكثيرة هي التحذيرات من الكسل والتراخي. الاجتهاد دائمًا له مكافأة: «أمام الملوك يقف»؛ أي أن المُجتَهِد سيصل إلى مراكز مرموقة (اقرأ أيضًا أمثال12: 24). والحكيم يمدح “أفكار المُجتَهِد” لأنها ستأتي دائمًا بثمار جميلة (أمثال21: 5)، ويُشَجِّعنا بأن “يد المُجتَهِدِين” تأتي بالغِنى (أمثال10: 4).
والاجتهاد له عدو مشهور؛ هو الكسل، الذي لَن يأتي إلا بالعوز والاحتياج والفقر. الكسول قد يتمنى أن يفعل شيئًا ما وربما يتحدَّث عنه أيضًا، ولكنه لا يريد أن يُتعِب نفسه، لكن الحقيقة التي يُقرِّرها الوحي: «فِي كُلِّ تَعَبٍ مَنْفَعَةٌ وَكَلاَمُ الشَّفَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَى الْفَقْرِ» (أمثال14: 23). والكسلان كثيرًا ما يشغل نفسه بأحلامِ يقظةٍ عن مشروعات يريد أن ينفذِّها ومَهَام يود أن يُنجزها، لكن يتوقف الأمر عند هذا الحد لأنه لا يريد أن يبذل جهدًا: (أمثال13: 4)، ولهذا فإن شهوته «تَقْتُلُهُ لأَنَّ يَدَيْهِ تَأْبَيَانِ الشُّغْلَ» (أمثال21: 25). والأكثر من ذلك أنه يخترع أسبابًا كثيرة ليُقنِع نفسه أن الاجتهاد مستحيل: «الأَسَدُ فِي الْخَارِجِ فَأُقْتَلُ فِي الشَّوَارِعِ!» (أمثال22: 13).
لكن للاجتهاد عدو آخر أقل شُهرة من الكسل، ولكنه ليس أقل خطورة؛ هو التراخي. التراخي ليس الامتناع عن فعل الشيء كالكسل، بل أن أعمل الشيء بحماس قليل ولا أعطيه ما يستحق من وقت ومجهود، أو كما نقول: “بلا ضمير”. وكلمة الله تُحذِّرنا: «الرَّخَاوَةُ لاَ تَمْسِكُ صَيْدًا أَمَّا ثَرْوَةُ الإِنْسَانِ الْكَرِيمَةُ فَهِيَ الاِجْتِهَادُ» (أمثال12: 27)، وتُعَلِّمنا أن «الْمُتَرَاخِي فِي عَمَلِهِ هُوَ أَخُو الْمُسْرِفِ» (أمثال18: 9).
2. العُجب
في المثل الثاني يقول الوحي: «أَرَأَيْتَ رَجُلاً حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ؟ الرَّجَاءُ بِالْجَاهِلِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّجَاءِ بِهِ!» (أمثال26: 12). لأن قلبي خدَّاع ونجيس، فمن السهل جدًّا أن أُعجَب بنفسي وبإمكانياتي وبمواهبي وبممتلكاتي، وكأنني أنا مصدرها: «لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ (أي لم تأخذه من آخر؛ هو الله، واهب كل شيء). وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ (من الله) فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟!» (1كورنثوس4: 7). لذلك فالشخص الجاهل له الرجاء به أكثر مِمَّن يظن في نفسه أنه حكيم ويتعامل مع الآخرين بتَعَالٍ وكأنه الأفضل؛ لأن الجاهل على الأقل يعلم ويُقِر بحقيقة نفسه، أما مَن يظن أنه حكيم فيخدع نفسه لأنه إن «كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا بَعْدُ كَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ!» (1كورنثوس8: 2).
لا شيء أسهل عليَّ من أن أظن أنني أفضل مَن على هذا الكوكب (أمثال20: 6). لكن الذي يعرف الحقيقة هو الرب وحده: «كُلُّ طُرُقِ الإِنْسَانِ نَقِيَّةٌ فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ وَالرَّبُّ وَازِنُ الأَرْوَاحِ» (أمثال16: 2). وهذا فخ خطير كثيرًا ما نقع فيه نحن الشباب في هذه الأيام، لكن الأمر ليس بجديد، فقد كان هكذا منذ القديم: «جِيلٌ طَاهِرٌ فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ وَهُوَ لَمْ يَغْتَسِلْ مِنْ قَذَرِهِ» (أمثال30: 12). فلتحذر يا صديقي!
لهذا السبب؛ فالوحي الإلهي يُوصي كلَّ واحد مِنَّا: «لاَ تَكُنْ حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِكَ. اتَّقِ الرَّبَّ وَابْعُدْ عَنِ الشَّرِّ» (أمثال3: 7). فالحكيم بحق هو مَن يعمل للرب حِسابًا في كل صغيرة وكبيرة في حياته ويتصرَّف دائمًا في نور الحضور الإلهي، فالحكمة الحقيقية هي في مخافة الرب (اقرأ أيضًا أمثال9: 10 ومزمور111: 10).
3. التسرُّع
في المثل الثالث يقول الكتاب: «أَرَأَيْتَ إِنْسَانًا عَجُولاً فِي كَلاَمِهِ؟ الرَّجَاءُ بِالْجَاهِلِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّجَاءِ بِهِ!» (أمثال29: 20). فهناك أيضًا رجاء للجاهل أكثر من الشخص الذي يتسرَّع في كلامه. التسرُّع في الكلام قد يعني أنني لا أفكِّر جيدًا في ما أقول، ولا أحسب تأثير كلامي على مَن يسمعني. وفي الرد على الآخرين، «مَنْ يُجِيبُ عَنْ أَمْرٍ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهُ فَلَهُ حَمَاقَةٌ وَعَارٌ» (أمثال18: 13).
كم من مرَّات نطقنا بأشياء ندمنا عليها؟! وكم من كلمات خرجت من أفواهنا كطعنات في قلوب أصدقائنا وأقرب الناس إلينا، وتَمَنَّيْنا لو أننا فكَّرنا قليلاً قبل أن يُصبح الكلام مِلكًا للآخرين؟! بل حتى في كلامنا مع إلهنا، في الخلوة الشخصية أو في الاجتماعات: «لاَ تَسْتَعْجِلْ فَمَكَ وَلاَ يُسْرِعْ قَلْبُكَ إِلَى نُطْقِ كَلاَمٍ قُدَّامَ اللَّهِ» (جامعة5: 2).
والتسرُّع ليس فقط في الكلام، بل أيضًا في القرارات: «أَيْضًا كَوْنُ النَّفْسِ بِلاَ مَعْرِفَةٍ لَيْسَ حَسَنًا، وَالْمُسْتَعْجِلُ بِرِجْلَيْهِ يُخْطِئُ» (أمثال19: 2). وهذا قد يُعَبِّر عن عدم الثقة في الرب وعدم الرغبة في انتظاره. عندما أجد نفسي أتسرَّع في اتخاذ قرار ما، حتى لو كان بسيطًا، أسأل نفسي: هل هذا بسبب عدم إيماني بالرب وصلاحه وحكمته وتوقيته؟
والتسرُّع يظهر أيضًا في الغضب وعدم ضبط النفس: «لاَ تُسْرِعْ بِرُوحِكَ إِلَى الْغَضَبِ لأَنَّ الْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حِضْنِ الْجُهَّالِ» (جامعة7: 9؛ اقرأ أيضًا أمثال14: 29 ويعقوب1: 19و20). وهذا ليس سهلاً، بل يحتاج إلى كثير من التدريب والتحكُّم في النفس وردود الأفعال، مع كثير من الصلاة وإفساح المجال لعمل الروح القُدُس داخلي لكي يملأني ويُظهِر فيَّ وداعة المسيح وحِلمه.
وهناك مَن يستعجل إلى الغِنَى ويسعى للكسب السريع ويرغب في تكويم الثروات. هذا أيضًا قد يُعَبِّر عن عدم الإيمان وعدم الاتكال على الله؛ مصدر كل العطايا الصالحة. ولمثل هؤلاء ولنا جميعًا يُوَجِّه الحكيم تحذيره: «رُبَّ مُلْكٍ مُعَجِّلٍ فِي أَوَّلِهِ أَمَّا آخِرَتُهُ فَلاَ تُبَارَكُ» (أمثال20: 21). ولأني وكيل ولستُ مالِكًا، فالأهم هو أن أكون أمينًا فيما يمنحني الرب إياه، لأن «اَلرَّجُلُ الأَمِينُ كَثِيرُ الْبَرَكَاتِ وَالْمُسْتَعْجِلُ إِلَى الْغِنَى لاَ يُبْرَأُ» (أمثال28: 20).
فليُعطِنا الرب نعمة، يا صديقي، حتى نكون مجتهدين في دراستنا وأعمالنا وكل ما نفعل، ولا نتعجَّل الأمور، قولاً أو فعلاً أو ردًّا لفعل، ومع ذلك لنتَّضِع ولا نكن حُكماء عند أنفسنا!