زفير القلوب مهرب جميل، مرصوف بالثقة والتفاهم والصراحة، ومسقوف بالأمل، كما ان سبيله معطَّر بأنفاس المودة المتبادلة، يقصده الكثيرون من الناس الذين ضاقت من الغم صدورهم أو فاض بهم كيل الضجر، كي تنزاح من على أكتافهم أحمال الهموم الثقيلة وأسرار قلوبهم التي لم تعُد تطيق الاختباء.. إنه مهرب "الفضفضة".
وصف أحدهم الفضفضة بأنها تعرية للذات أمام المقرَّبين. تنطلق بواسطتها الكلمات - من صميم القلب - بلا تكلُّف، وتنزلق الهمسات المشبَّعة بالمشاعر وزفرات الأنين من شفاه التعابى، إلى آذان رقيقة قد اتَّسعت ورحَّبت بكل ما يأتيها من أصدقاء لهم.
على من تسكب شكواك؟
الحقيقة التي نعلمها ونلمسها في حياتنا؛ أن من لا يجد شخصًا قريبًا لقلبه ليشاركه أمرًا أرهق نفسه أو ليُفضي له سرًّا لم يعُد يطيق كتمانه، يُصاب في الغالب بمرض نفسي. أما الذي يفضفض بما في داخله، فيشعر بصفو الحياة، وتتشدد قواه لمواصلة المسير بجرعة من التشجيع والثقة وراحة النفس. قد تكون سمعت هذه النصيحة من قبل: ”إن كتمت في نفسك ستمرض نفسيًا أو على الأقل تصاب بضغط الدم أو مرض السكر، فعليك أن تفضفض أو تبكي بصوت مسموع، أو حتى تصرخ، لتستريح وتحصل على شفاء داخلي!“ انتبه يا عزيزي، هذا العلاج ينقصه أمرًا آخر بالغ الأهمية، متعلق بمن يسمعك. السؤال المهم الذي يطرح نفسه: مع من تتكلم؟ على من تسكب شكواك؟ أليس هو الشخص الصدوق، الأمين والحكيم وحافظ السر الذي يمكن أن تأتمنه على سرك ولا تخجل أن تعبِّر له عما يمتلئ به صدرك، فيجيبك بما يشفي غليلك؟ هل في استطاعته أن يمسك بيدك ويهديك لما فيه الصواب، ولا يبخل عليك برأيه الحكيم الذي يصحح مسارك إن دفعتك المتاعب والضغوط لاتخاذ قرار ليس في صالحك أو عمل أمر لا تُحمد عقباه؟؟
الأحضان الشائكة
الإنسان بطبيعته متعجل في كلامه، يرغب في الحلول السريعة والتعامل مع الامور المنظورة، علاوة على أنه بسهولة ينخدع في من يظهرون غير ما يبطنون. فما أكثر الذين صدموا بسبب سوء اختيارهم لمن فضفضوا له، ومرت الأيام وندموا على البوح بما في نفوسهم له. ومن تكرار التجربة مع آخرين، شعروا أنهم اندفعوا بأحمالهم وألقوا أنفسهم في أحضان شائكة! فحصَّلوا وجعًا على وجع! وهذا أمر وارد، سواء في محيط أفراد العائلة أو الأصحاب. الشخص الذي يسمعك قد يسيء فهمك، أو يعجز عن مساعدتك، لكن الأصعب على نفسك أن يكوِّن عنك انطباعًا سلبيًا، أو يجيبك بجفاء أو غباء فيزيدك ألمًا وحيرة. ربما كتبت على أحد شبكات التواصل الإجتماعي ما يمكن أن يُصنَّف تحت مسمّى « فضفضة»، ووجدت أن البعض تعاطف معك وطيَّب خاطرك بكلمات رقيقة، بينما الآخرون أساءوا فهمك، حاسبين أن شكواك إدانة أو تذمر أو عدم إيمان؛ فجرَّحوك بتعليقاتهم أو بفلسفاتهم. تجنب محاولات ضبط المزاج بصورة مؤقتة عن طريق إستقاء النشوة - التي تهدئك إلى حين - بتعليقات الناس المعسولة وتعاطفهم الظاهري.
الصديق المؤنس والأب الحنون
لا يمكن أن أنكر إحتمالية وجود شخص محب وحكيم (يمكن أن تفضفض له) سواء من الأصدقاء أو أفراد الأسرة ويكون عونًا حقيقيًا لك. نشكر الله من أجل الآباء والأمهات، سواء بالجسد أو المؤمنين الذين حباهم الرب قلب راعوي وأحشاء المسيح، والذين يجيدون الإنصات والنصح. لكني سأشير عليك بالشخص الذي اختبرت روعة الفضفضة له، فقررت ألا أفعلها مع غيره، من فرط رقته واتساع صدره، فضلاً عن حكمته وحسن مشورته. المدهش والجميل في الأمر أنه يشعر بي ويفهمني جيدًا، أما عن سوء الفهم بيننا فهو أمر غير وارد مطلقًا. هذا الصديق هو أبونا الذي في السماء الذي لم يرَه أحد من البشر، حتى جاء الرب يسوع المسيح الذي رأينا في وجهه كل محبة ورحمة وحنان هذا الآب الكريم. علَّمنا المسيح علمنا أن أبينا السماوي. «يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (متى6: 8)، يعلم احتياجنا لا المادي فقط بل العاطفي أيضًا. وهو يسمع لنا في كل حين، ويُسرّ بأن يرانا نلوذ إليه قبل أي شخص آخر؛ قبل أن توصَد قلوب البشر في وجوهنا. «أَسْكُبُ أَمَامَهُ شَكْوَايَ. بِضِيقِيْ قُدَّامَهُ أُخْبِرُ» (مزمور142: 2).
صديقي: هل تعلم أن لك أب حنون في السماء يعلم المنغِّصات التي تكدِّر صفو حياتك، وما يجول في ذهنك، وما يجرح قلبك. وهو يرحب بك دائمًا. إنه صاحب القلب الكبير والحضن الدافئ العامر بالحنان الأبوي. إن أخبرته بكل ما عندك لن تكون محتاجًا أن تفعل هذا الأمر مع شخص آخر. لدي بعض الأسباب التي تجعلني أشير عليك أن لا تتواني أن تفضفض له. فأبونا السماوي هو
1. المتاح لنا في كل حين ولا يمل منا إن أطلنا الحديث معه «توَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ يَا قَوْمُ. اسْكُبُوا قُدَّامَهُ قُلُوبَكُمْ. اَللهُ مَلْجَأٌ لَنَا» (مزمور62: 8).
2. الذي يشعر بنا ويفهم ما نكلِّمه به دون أدنى إحتمال لسوء الفهم. لا نستحي أن نبكي أمامه أو نعبر بما فينا سواء بكلمات أو حتى أنَّات.
3. لا تتغير مشاعره نحونا، ولا مواقفه منّا مع الأيام، فتدفُّق محبته ورقته وحنانه لا تتوقف على حالتنا بل ثابتة مهما صدر من طرفنا. هو أقرب لنا، وأولى من أي شخص كي نفتح له قلوبنا، وهو مسؤول عنّا بحقِ بنوتنا له. لن يشوِّه صورتنا أمام الآخرين مطلقًا، بل يُسَرّ بأن يشجِّعنا ويرفع وجوهنا أمام إخوتنا.
4. عنده القدرة أن يُشبع عواطفنا ويجيب على حيرتنا من أقواله الصالحة، ويشجِّعنا بمواعيده الأمينة، ويُشير علينا بالمشورة الفُضلى التي تضمن لنا الشفاء الداخلي التام.
5. الوحيد الذي يمكن أن يهبنا قدرة على الغفران ونزع للمرارة من القلب، وتصحيح لوجهات النظر، ويزيد الثقة في سلطانه وصلاحه، كما يعطي قدرة على احتمال المشقات بصبر وأناة بلا تأفف أو ضجر. وهو إله رحلة العمر الذي يمكن أن يفتح بصيرتنا فنرى أن الرتوش السوداء في لوحة الحياة هي التي زادتها جمالاً.
مع أنك تدرك الحقائق السابقة، لكن قد تعود وتسكب شكواك على الآخرين الذين يخذلونك، فيظل قلبك مكسورًا، وربما فقاقيع المرارة تعود للظهور على السطح كلّما تذكَّرت الظروف الأليمة التي جرحت مشاعرك أو تذكَّرت أولئك الذين خابت آمالك فيهم. وقتها ستجد أن علاقاتك ساءت مع الذين حسبتهم مقرَّبين لك فتضطر للإنعزال وتسكب شكواك على نفسك، فتزداد انحناءً وتئن قائلاً: ”ليتني أخبرت أبينا بما جرى“.