رأينا في المرة السابقة الأساس التعليمي الذي شرحه الرسول في رومية6 للعتق من سلطان الخطية الساكنة فينا، حيث لخص ذلك في ثلاث نقاط:
• «عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطَل جسد الخطية» (ع6).
• «احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية» (ع11).
• «قدموا ذواتكم لله كأحياء... وأعضاءكم آلات بر لله» (ع13).
لكننا عندما نبدأ عمليًا في تنفيذ هذه الخطوات الثلاث، فإننا نصطدم في الاختبار العملي بوجود الخطية كطبيعة فاسدة تعمل فينا. فكيف أحسب نفسي ميتًا عن الخطية وأنا أرى أنها كائنة فيَّ بكل نشاطها وميولها؟ وهنا يأتي دور التدريب والاختبار في رومية7، ومُلخص تدريبات النفس في هذا الفصل العظيم أنه يمر بثلاث مراحل:
1. «أنا جسدي مبيع تحت الخطية» (ع14). وهذا القول لا يصدر إلا عن شخص وُلد من الله ونال الحياة الجديدة. فالذي لم يوُلد من الله لا يشعر بوطأة طبيعة الخطية في كيانه. أما المولود من الله فينزعج عندما يكتشف وجود هذه الطبيعة بنشاطها وعنفوانها كما هي، وأنه لا يقدر عليها، فيظن أنه بجملته جسدي مبيع تحت الخطية. وهذا استنتاج غير صحيح.
2. ثم يتقدم مرحلة أخرى في الاختبار فيقول: «إن كنت ما لست أريده إياه أفعل، فلستُ بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة فيَّ» (ع20)، التي تريد شيئًا مختلفًا عن إرادته الجديدة. فهو هنا يُميِّز بين الطبيعتين، ويعرف أنه شخصيًا ينحاز إلى الطبيعة الجديدة برغباتها المقدسة، ولكنه يرى الطبيعة القديمة تقاومها وتعمل في الاتجاه المضاد. فيقول أيضًا: «إني أُسر بناموس الله بحسب الإنسان الباطن (الطبيعة الجديدة)، ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية» (ع22، 23).
3. ثم تأتي الخطوة الثالثة في الاختبار: فبعد أن وجد بعض الراحة في أنه شخصيًا يريد أن يعمل الحُسنى ويتمم إرادة الله، ولا يريد أن يعمل إرادة الجسد، إلا أنه يجد أن إرادته الجديدة عاجزة أمام رغبات الطبيعة القديمة، والنتيجة أن الشر حاضرٌ عنده، وأن ما يبغضه إياه يفعل مُجبرًا، وأن هذا الناموس الآخر الكائن في أعضائه يسبيه إلى ناموس الخطية. بالاختصار يجد أن الطبيعة القديمة هي الأقوى. ومع الفشل المتكرِّر ييأس من المحاولات ويشعر أنه لا أمل في نفسه فيصرخ: «ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت». إنه لا يقول: كيف أخلص من جسد هذا الموت؟ بل من ينقذني؟ (ع24). إنه يمد البصر إلى خارج ذاته باحثًا عن شخص آخر كلية، وليس عن وسيلة أو قوة للإنقاذ، بعد أن يأس من نفسه ومحاولاته. وعندما ينفض يده من نفسه ويتطلع بعيدًا عن ذاته فإنه يكتشف العلاج الكامل في المسيح، فيهتف من أعماقه: «أشكر الله بيسوع المسيح ربنا» (رومية7: 25)، ودائمًا نهاية الإنسان هي بداية الله.
إن الكثيرين يعتقدون أنهم مسؤولون عن إخماد ثورات الطبيعة الفاسدة فيهم بقوتهم الذاتية، وهم لا يدركون أن الطبيعة الجديدة تعطي الرغبات والأشواق المقدسة، لكنها لا تعطي القوة لتنفيذ هذه الرغبات، أما القوة الحقيقية الفعالة فهي في الروح القدس الذي يمنحنا حياة المسيح المُقام من الأموات، هذه الحياة الظافرة والمنتصرة. وبدون امتلاك هذه الحياة بالروح القدس الذي يُدفِّقها ويُفعِّلها فينا، عبثًا نحاول الانتصار على الجسد. لهذا قال الرسول: «لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت» (رومية8: 2). والنتيجة المباركة هي: «فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ» (غلاطية2: 20).
والروح القدس الساكن، هو القوة العاملة في هذه الحياة الجديدة، والتي تُمكِّن المؤمن أن يسلك بالروح فلا يُكمل شهوة الجسد، بل وبه يُميت أعمال الجسد ويكبح جماحه.
وعندما نتأمل في رومية7 لا نجد في الأعداد 7-24 أيَّة إشارة إلى عمل المسيح الفدائي، أو إلى الروح القدس، أو إلى النعمة، ولا يُذكر اسم الرب يسوع في هذا الجزء كله. فالشخص هنا يدور في فلك ذاته باحثًا عن الصلاح. ونلاحظ كثرة تكرار كلمة “أنا” “وياء المتكلم” في رومية7: 7-24، والتي تصل إلى أكثر من 40 مرة. ولكن في (ع24) نلاحظ التغيير الفجائي، إذ وصل المتكلم إلى حافة اليأس قائلاً: «من ينقذني؟».
فما هو إذًا سرّ الحصول على العتق؟ الجواب هو بكل بساطة: التحول عن الذات والمشغولية الكاملة بالمسيح. إن الكمال ليس في داخلك بل في المسيح الممجَّد، وأنت صرتَ كاملاً فيه. وهذا ما يعطي للنفس الراحة والأمان، ويجعل الخطوات تستقيم بتلقائية.
«ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت»، وكلمة ناموس تعني “قاعدة عمل”. فناموس الروح القدس، أي القاعدة التي يعمل بها، هو الذي يعتق ويحرر. ولكي نفهم مدلول هذه العبارة نقول على سبيل التشبيه: “إن المغناطيس يجذب بُرادة الحديد”. هذه حقيقة علمية، ولكن يلازمها أن المغناطيس يعمل في المجال المغناطيسي من حوله فقط. فلو وُضعتْ بُرادة الحديد في مكان بعيد خارج نطاق المجال المغناطيسي لن يجذبها المغناطيس. هكذا الروح القدس يعمل فقط ويعطي القوة والنصرة على الجسد، عندما يكون المؤمن في المناخ الذي يناسب الروح القدس. فإذا كان الشخص في مجال عمل الجسد، ونشاطه وقراءاته ومشاهداته وعلاقاته والأماكن التي يتردد عليها، كلها فيما يغذي الجسد، فلن يعمل الروح القدس ولن تتحقق النصرة. لكنه سيعمل بقوة وبتلقائية عندما يكون المؤمن في أجواء روحية نقية ومقدسة تناسب الروح القدس. إن الروح القدس يُسَرّ بأن يُدفق حياة المسيح المُقام في داخلك، ويعطيك أن تختبر حلاوة العتق والنصرة على الخطية، فهل تفسح له المجال؟ وهل تخضع له، وتقبل توجيهاته؟
إن الجسد في المؤمن أكثر شراسة من غير المؤمن لأنه ليس حرًا طليقًا. إنه يشبه الكلب المحبوس داخل غرفة ومغلق عليه فيها. هذه الغرفة هي واحدة من قصر فسيح يعيش فيه المؤمن هانئًا ومستريحًا. الكلب لن يستطيع الخروج ما لم يفتح له المؤمن الباب، وعليه أن يهمله. ليتنا ننشغل بالأمور الأفضل، ونشبع بنصيبنا في المسيح، والنفس الشبعانة تدوس العسل.
سيظل هذا الجسد الفاسد فينا طالما نحن في الأجساد الترابية على الأرض، إلى أن يأتي الرب ويفتدي أجسادنا، ويغير هذا الجسد الترابي الوضيع ليكون على صورة جسد مجد المسيح، وعندئذ سنتحرر نهائيًا من جسد الخطية الذي فينا، وينتهي الصراع، ولما تنتهي الحرب نُكلل.