قد تسمعها من إنسان تزعجه أخبار الحوادث، وتؤذيه صدمات الظروف، توقَّف عن قراءة الصحف وانصرف عن مشاهدة الميديا، كلما سمع عن ابنة تيّتمت، أو زوجة ترملَّت، أو أسرة تحطّمت، يتمتم على الفور: ألطف يا لطيف!!
أو قد تسمعها من ركاب “غلابة” متراصين، يقودهم سائق أهوج وهم مترنحين، يتمايلون مع قيادته المتعرجة، ويتأففون من مزحاته المتتالية، يجلسون مستسلمين لمصيرهم، ويحلمون بنهاية مسيرهم، ويقولون: استر يا لطيف!!
يا لطيف و الحيرة
لا شك أن من يتابع نشرات الأخبار وبرامج التوك شو في أيامنا الحالية، يدرك بشدة كم يحتاج البشر إلى رحمة الله ولطفه عليهم في هذه الأيام الصعبة؛ فما أكثر المآسي، وما أصعب المشاكل، فهناك بلاد تُدمَّر، وأهالي تُهجَر، وأصبح الشيطان يمارس هوايته في هلاك النفوس، ويتلذذ عندما يرى أطفالاً يلعبون الكرة بالرؤوس!!
والحقيقة أنني كلما سمعت عظات عن لطف الله، كلما أصابتني حيرة كبيرة، فأنا لا أفهم كثيرًا المعنى الدقيق له، صحيح أننا سمعنا عن نعمة الله (التي تعطي كل خير لنا)، وعن رحمة الله (التي تمنع كل شر عنا)، وصحيح أننا نستطيع تعريف الإنسان اللطيف، أنه “الحبّوب” في أخلاقه، والمجامل لغيره، و”الكيوت” في صوره، ولكننا أمام لطف الله سنعجز عن التعريف.
ومن يقرأ المواضع التي ذكرت فيها لطف الله في الكتاب المقدس، فستتضاعف عنده هذه الحيرة، لأن في أغلبها نجدها مرتبطة بالتوبة المطلوبة من الإنسان، ومنها مثلاً الآية الشهيرة عن لطف الله في رسالة رومية «أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟» (رومية2: 4)، وهذا أمر عجيب!! فأنا أفهم أن لطف الله إنما يقودني إلى التسيُّب والتساهل، فكم قرأنا عن قادة عابهم اللطف واليد المرتعشة، وكم سمعنا عن أباء دمَّروا أبنائهم باللطف والتدليل، وبالتالي أصبح ضلعي الحيرة هما سؤالين؛ الأول: ما هو معنى لطف الله؟ والثاني: كيف يقودني لطف الله للتوبة؟!!
يا لطيف والإجابة
والحقيقة أن إجابة السؤالين السابقين، نجدها في الترتيب البديع التي جاءت فيه الآية موضوع تأملنا، ولهذا علينا أن نقرأ الآية في سياقها (مع الآية التي تسبقها، والآية التي تليها) هكذا: «أَفَتَظُنُّ هذَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تَدِينُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا، أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ الله. أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟ وَلكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ» (رومية2: 3-5).
ففي هذا الجزء كان يتحدث بولس الرسول لا عن أشرار فُجّار يفعلون الشر علانية ويُسرّون به، ولا عن آكلي لحوم البشر وعابدي الأصنام، ولكنه يتحدث عن أشرار “مؤدَّبين” لا يفعلون الشر مثل باقي “الغجر”، بل ويشمتون في العقاب الذي يوقعه الله على غيرهم، ظنًا منهم أنهم يستطيعون الهروب من دينونة الله العادلة ومن قصاصه المستحق، فهم من جهة يفرحون أن الله يعاقب غيرهم، باعتباره الجبار المخيف، ويظنون أن الله “طنش” أو “فوت” على خطاياهم باعتباره اللطيف!!
وهنا كان على بولس أن يشرح لهم معنى لطف الله، ويقول لهم: إن صبر الله وتمهُّله عليهم، وتأجيله للغضب والدينونة على شرورهم، ليس لأنهم أفضل من غيرهم، ولكن لأن الله يريد أن يعطيهم المزيد من فرص التوبة والرجوع إليه، وإذا لم يستثمروا هذه الفرص، سيقع عليهم المزيد من الغضب (الذي يذخرونه لأنفسهم)، وبالتالي ففي كل فرصة يعطيها الله لنا، وفي كل حادثة أو مصيبة تحدُث لغيرنا، يبرز منها جرس لُطف الله الذي يجب أن نُحسن سماعه، والذي يقودنا للتوبة لو لم نستسلم لمبررات القلب وخداعه!!
يا لطيف والرسالة
ويلاحقني في ذهني قصة حدثت مع الرب يسوع شخصيًا، توضِّح لنا هذا الأمر، عندما جاء إليه قوم يخبرونه عن مذبحة بشعة كانت على أساس ديني وطائفي، عندما خلط بيلاطس دم بعض الجليليين (بلديات المسيح) مع ذبائحهم، وأتخيَّل أن هؤلاء الناس المخبرون، كانوا يريدون إما استخراج كلمات إدانة من فم المسيح على بيلاطس أو على هؤلاء المذبوحين، أو حتى كلمات رثاء وتعزية لعائلاتهم المكلومين.
ولكن فوجئ الجميع، بأن المسيح لم يتكلم لا عن بيلاطس، ولا عن الجليليين، ولكنه توجه بالحديث للقوم أنفسهم، وقال لهم: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ» (لوقا13: 2،3)، وهنا كل العجب!! فالمسيح كان متألم جدًا لهذه الجريمة البشعة والدليل أنه استخدم كلمة “كابدوا مثل هذا”.
ولكن ما قد يهمه في المقام الأول، هو الرسالة التي يريد توصيلها للسامعين، والتي تتلخَّص في أن هذه الحوادث والكوارث لغيركم، ليست لأنهم خطاة أكثر منكم، ولا لأن الله غافل عن عقابكم، ولكن لأن الله عنده صبر وطول أناة ولطف يريد أن يقودكم للتوبة من خلاله، وعليكم أن تستفيدوا من لطف الله معكم، بدل أن تتهموه بأنه غير عادل وغير صالح مع غيركم!!
والرسالة المرعبة متواصلة لي ولك - عزيزي القارئ – فللأسف، كثيرًا ونحن نتابع أخبار المسيحيين المشرَّدين من بلادهم، والمضطهّدين في ديارهم، نظن أن هذا حدث لهم، لأن كنيستهم أقل تقوى ومؤمنيهم أقل صلاة، وكثيرًا ما نسمع عن حادثة تحدث لقريب أو نسيب، ونفسرها على أنها بسبب خطيته الكبيرة، أو بوقوعه تحت تأديب يد الله القديرة، وهكذا فإننا نخطئ ترجمة رسائل الله “اللطيفة” لنا، ونهتم فقط برسائله لغيرنا، ولهذا علينا أن نتحذر من كلمات الرسول بولس في ذات رسالة رومية «فَهُوَذَا لُطْفُ اللهِ وَصَرَامَتُهُ: أَمَّا الصَّرَامَةُ فَعَلَى الَّذِينَ سَقَطُوا، وَأَمَّا اللُّطْفُ فَلَكَ، إِنْ ثَبَتَّ فِي اللُّطْفِ، وَإِلاَّ فَأَنْتَ أَيْضًا سَتُقْطَعُ» (رومية11: 22)، فمن يرفض أناة الله، ويسيء ترجمة لطفه، فسيأتي عليه وقت ليقابل غضب الله، وتسقط عليه صرامته!!
سامحني لاني عليك اتقسّيت، ونسيت إنك الله القدوس النور
ووزعت على الناس إداناتي، من غير لا إحم ولا دستور
وترجمت بمزاجي كلمة “يا لطيف”
وسُقت في غباوتي بشكل عنيف
وخبيت عن عيني غضبك المخيف
راجع لك من جديد، بعد ما كشفت المستخبي والمستور
تردني نفسي تاني لحضنك، فيرجع يغمرها السرور