بالرغم من مرور الأيام والسنين، إلا أن موجات المد العنيفة تسونامي التي ضربت الساحل الشرقي لأكثر من 14 دولة من عالمنا عام 2004 ستظل محفورة في التاريخ البشري كواحدة من أقوى وأعنف الظواهر الطبيعية التي وقف فيها الإنسان عاجزًا أمام غضب الطبيعة. كم من بيوتٍ تهدَّمت ومبانٍ انهارت، فتشرَّد الكثير من العائلات بلا مأوى، حيث بلغ ارتفاع المياه 20مترًا تقريبًا، مما أدّى إلى اختفاء العديد من القرى والمدن التي لم تستطع الصمود أمام قوة المياه الجارفة. إلا إنها لم تكن الأخيرة، بل تلتها موجات أخرى، كان إحداها عام 2011 حينما ضربت موجات تسونامي العاتية دولة اليابان مما أدى إلى خسائر كثيرة، فوفقًا لإحصائيات الحكومة اليابانية قُدِّر عدد المتوفين فيها بـ 15800 شخص بينما عدد المفقودين قُدِّر بـ 2636 نسمة.
إحدى هؤلاء المفقودين هي السيدة “يوكو” التي لا يزال يبحث عنها زوجها الوفي “ياسوتاكاماسوتو” وهو رجل ياباني يبلغ من العمر 57 عامًا ويعمل سائق أتوبيس في اليابان. لكن الرائع فيه أنه بالرغم من ابتلاع المياه لزوجته منذ أكثر من 3 أعوام إلا أنه يقوم يوميًا بمساعدة صديقين له برحلة غطس للبحث عن بقايا جثة زوجته المفقودة تحت المياه، على أمل أن يحقِّق حلمه بالعثور عليها. وعند سؤاله عن سر إصراره على البحث عنها بالرغم من خطورة وبرودة المياه في هذه المنطقة، كان دائم القول: "أنا افتقدها بشدة.. أفتقد وجودها إلى جواري.. جزء مني سقط في هذه المياه ولا أستطيع العثور عليه.. أحلم بأن أجد جثتها حتى أرتاح وأكرمها بدفنها وزيارة قبرها يوميًا.. كل ما يقلقني هو مرور العمر دون العثور عليها وعدم المقدرة على الغطس مجدَّدًا.. لا يمكن أن أنسى آخر رسالة لها يوم 11/3/2011 على هاتفي الجوال مستنجدة: “أريد العودة للمنزل.. أنا أهلك.. تسونامى كبيرة.”
ما أروعك يا ياسوتاكاماسوتو وأنت تعطينا نموذجًا عمليًا في الوفاء والإخلاص في الحياة الزوجية، يندر أن يجود به الزمان علينا، بعد أن كنا نسمع عن هذا النوع من الحب الصادق في التاريخ البعيد أو حتى الأساطير الخيالية.
صديقى.. صديقتي.. يعلِّمنا ياسوتاكاماسوتو درسًا رائعًا عن روعة الحب والتضحية، لكنه في الحقيقة يقف قزمًا أمام هذا المحب الأعظم: الرب يسوع المسيح، الذي يحبنا بالرغم من شرورنا وخطايانا «وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيح لأَجْلِنَا» (رومية5: 8). قد يكون ياسو محقًا في بحثه عن زوجته إذ إنها زوجته ورفيقة عمره وشريكة حياته، لكن ماذا إذا كانت عدوته؟!!
أخي.. أختي.. أعرف مُحبًّا أحبنا ونحن أعداء له في القول والفكر والفعل. وبالرغم من أننا أعطيناه القفا لا الوجه، رفضناه بكل معنى الكلمة. لكنه أحبَّنا، ويحبنا، وسيظل يحبنا. ومن ثم يقدر أن يصالحنا مع الله ويعطينا نعمة الخلاص «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ!» (رومية5: 10). فصرنا قريبين بعد أن كنا بعيدين «وَلكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ» (أفسس2: 13). بل والمدهش إننا صرنا رعية مع القديسين بعد أن كنا غرباء عنه «فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ» (أفسس2: 19).
كانت أقصى طموحات ياسو في العثور على زوجته المفقودة هي أن يجدها ليدفنها ويزور قبرها، لكنه أظهر عجز الإنسان في أوضح صورة «الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ» (مزمور49: 7). أما سيدي ومخلِّصي، الرب يسوع المسيح، فقيل عنه بروح النبوة «غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ، وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ، وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي» (مزمور69: 2)، وذلك ليس ليدفني، بل ليُقيمني ويعطيني الحياة الأبدية معه في السماويات «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس2: 6). فهو يبحث عن الضال حتى يجده (لوقا15: 4)، إذ إنه الوحيد القادر على دفن الخطايا في بحر النسيان وإعطاء الضمان، إنه لن يعود يذكرها فيما بعد «كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا» (مزمور103: 12)، «أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ لأَجْلِ نَفْسِي، وَخَطَايَاكَ لاَ أَذْكُرُهَا» (إشعياء43: 25).
أيها القارئ العزيز.. قد تكون في بحر شرورك غرقان.. تمكن منك اليأس مع مرور الزمان.. تبحث عن حل، لكنك تقف حيران.. إذ لا يوجد رجاء عند الإنسان.. ها الرب يسوع المحب والحنان، صاحب الوعد والضمان، لكل من يأتي إليه تائب ندمان عن كل شر مهما إن كان، ليمنحه الحرية والسعادة والأمان. فهل تسرع إليه ليمحو ذنوبك ويطرحها في بحر النسيان؟