كان أحد الوُعّاظ يُخاطب مجموعة من الناس، فأخذ قطعة ورقٍ كبيرة، ورسم بقلم عريض بقعةً سوداء في وسطها، ثمَّ رفع الورقة أمام الحضور وسألهم ماذا يرون. فأسرع أحدُهم بالقول: “نقطة سوداء!”
أجاب الواعظ: “صحيح، وماذا ترَون بعد؟” فساد صمتٌ مُطبق. وعندئذٍ سألهم: “ألا ترون شيئًا غير النقطة السوداء؟” فقال الجميع بصوتٍ واحد: “لا!” إذ ذاك علَّق قائلاً: “لقد أغفلتم الأمر الأهمَّ؛ أعني الورقة البيضاء!”
ومن ثَمَّ أكدَّ العبرة المُستفادة، فقال: “إننا في الحياة كثيرًا ما تُلهينا الخيبات الصغيرة وننسى الخيرات الجزيلة التي يُغدِقها علينا الربّ. ولكنَّ خيرات الحياة، كحال الورقة البيضاء الإيضاحيَّة، تغمرها الظروف المعاكسة التي تستحوذ على انتباهنا.
فعوضًا عن التركيز على تجارب الحياة، ينبغي أن نصبَّ اهتمامنا على بركاتها. ولنقُل مع صاحب المزمور: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ يَوْمًا فَيَوْمًا. يُحَمِّلُنَا إِلَهُ خَلاَصِنَا (خيرات)» (مزمور68: 19)، وأيضًا «بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ» (مزمور103: 2).
وإذا نحن واظبنا على حمده وتسبيحه، وشكره على كل ما نتمتع به من بركات روحية وزمنية، فلن تشغلنا النقاط السود الصغار في حياتنا. وما أحسن أن يكون لسان حالنا ما قاله ناظمُ المراثي: «أُرَدِّدُ هَذَا فِي قَلْبِي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُو: إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ. هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ. نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُوهُ» (مراثي3: 21-24)!
أحبائي: إن لنا في معونة الله وتعزياته زادٌ يكفينا حتى نهاية الرحلة. وما أكثر الأشياء التي لنا لنشكر الرب عليها حتى في وسط الضيقات. وهو الأمر الذي كان قد تعلّمه أحد المُرسَلين الذي احتُجِزَ في بلد من البلدان طيلة ستة عشر شهرًا. وفي أول مقابلة صحفيَّة له بعد إطلاق سراحه، سئُل عن كيفيَّة قضائه الوقت، ومواجهة الضجر والسأم، والخوف من انتظار ما قد يحدث له، فأذهل جوابُه المراسلين، إذ قال في بساطة: “كنت أعدُّ بركات الله عليَّ.”
فسأله أحدهم: “أيَّة بركات؟!”
أجاب موضحًا: “كان يُسمَح لي بالاستحمام بعض الأيام. وفي بعض الأحيان كان طعامي يتضمّن بعض أنواع الخُضروات التي أُحبها. وكان في وسعي دائمًا أن أشكر الله على محبة أسرتي لي، ومن أجل الصلوات المرفوعة من أجلي، وتوقعي استجابتها. وقبل كل هذا، وبعد كل هذا، كنت أفكر في كل البركات الروحية التي أتمتع بها نتيجة محبة المسيح الفدائية، وموته الكفاري من أجلي على الصليب، وما ينتظرني في الأبدية.”
وكان جلد وجهه الذي يلمع، والبريق الذي يشع من عينيه، والابتسامة الهادئة المطمئنة المرتسمه على وجهه، تؤكد صدق ما قاله.
وبمقدورنا أن نفهم سبب ذهول المراسلين. فمن الصعب على معظمنا أن نشكر الله دائمًا على البركات المألوفة التي تجعل الحياة هانئة ومريحة، مثل إعالتنا يوميًا بتلبية حاجاتنا المعتادة، وتدبير المأكل والمسكن، ورفقة الأصدقاء والعائلات. حتى إننا قد ننسى أحيانًا مراحم الرب المُدهشة المُقترنة بنعمته الفادية. ومهما اشتدت ظروفنا وعنفت، فباستطاعتنا أن نبقى شاكرين باستمرار على أننا لسنا في الجحيم، حيث كان ينبغي أن نكون.
فمع أن “بولس وسِيلاَ” ضُربا وأُلقيا في السجن، وثُبِّتت أرجلُهما في الْمِقْطَرَةِ، ظلا «يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ اللهَ» (أعمال16: 25). فليتنا نتعلّم منهما، ومن ذلك المُرسَل التقيّ، أن نعدَّ بركات الله علينا بغضِّ النظر عن ظروفنا. فحقًا إن لدينا أسبابًا عديدة للفرح والابتهاج! ومن المؤكد أن تسبيح الله يأتي تلقائيًا عندما نعدُّ بركات الله علينا.
| وَإِنْ أَثْقَلَتْكَ هُمُومُ الْحَيَاةْ فَعُدَّ الْمَرَاحِمَ تَلْقَ النَّجَاةْ فلا يَهُنِ الْعَزمُ منكَ ولا وَعُدَّ المَراحِمَ: جُندُ الْعُلَى |
| وَأَمْسَى صَلِيبُكَ لاَ يُحْتَمَلْ وَتُنْشِدْ نَشِيدَ الْهَنَا وَالأَمَلْ تَخَفْ؛ إنَّ ربَّكَ فَوقَ الجميعْ تُحيطُكَ دَومًا بسورٍ مَنيعْ |