أُحِب البحر جدًّا. من أجمل الأوقات التي أستمتع فيها هي عندما أقف، أو أجلس، على شاطئ البحر وأُرهِف سمعي لصوت الأمواج؛ هديرها أو خريرها، وأمد بصري إلى الأُفُق البعيد وأُغرِق عينيَّ في زُرقته بدرجاتها، وأترك وجهي ليتناثر عليه رذاذ الأمواج المُنعِش. تراودني أفكار متكرِّرة في مثل هذا الموقف؛ منها مثلاً ما قاله الكتاب المُقدَّس عن عظمة قدرة الله الذي خلق البحار والمحيطات وكل ما فيها من أحياء تسلك في سُبُل المياه (مزمور8)، وعن عظمة سلطانه إذ وضع لها حدودًا لا يمكن أن تتعدَّاها (أيوب38). وأجدني أسبح بفكري في ما هو أكبر من هذه الأرض كلها ببحارها ويابستها؛ في الكون الفسيح الهائل الذي لا نعرف له حدًّا والذي يُحَدِّث بمجد الله ويُخبِر بعمل يديه (مزمور19)!
لكن هناك فكرة أخرى: ماذا عن العُمق؟ أنا أقف هنا على الشاطئ وأستمتع بالبحر من الخارج، ولكن ماذا لو سبحتُ قليلاً في أعماقه؟ هل سيكون الأمر مُمتعًا بالقدر نفسه؟ هل سأخاف من غدر الأمواج؟ ولا أقدر عند هذه الفكرة إلا أن أتذكر ما رآه حزقيال النبي: «وَإِذَا بِنَهْرٍ لَمْ أَسْتَطِعْ عُبُورَهُ، لأَنَّ الْمِيَاهَ طَمَتْ، مِيَاهَ سِبَاحَةٍ، نَهْرٍ لاَ يُعْبَرُ» (حزقيال47: 5). وأتذكَّر أن الرب كثيرًا ما يُعلِّمنا في الأعماق:
1. «ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ»
قالها الرب لبطرس، بعد ليلة طويلة من التعب والعودة بالشِّبَاك خاوية. كان الرب قد التقى به مِن قبل وغيَّر اسمه من “سمعان” إلى “صَفَا” أو “بطرس”؛ أي حَجَر (يوحنا1). وفي هذا إشارة إلى التغيير الذي يحدث معنا في بداية حياتنا مع الرب، حيث يُغَيِّرنا من الداخل ونولد من الله ونأخذ طبيعة جديدة. لكن الرب كان يريد أن سمعان يتبعه؛ أي يصبح تلميذًا له، ومِن ثَمَّ يصطاد الناس؛ أي يخدم الرب. ولكي يبدأ تأهيل الرب له ليقوم بهذا الدور، ينبغي أن يعرف بطرس نفسه أولاً.
رحلة صيد فاشلة يعقبها اندهاش كبير لاصطياد سمك كثير في توقيت غير مُعتاد، وقع بعدها بطرس عند رُكبتي الرب يسوع وقال له: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ». كان الرب قد أَمَر بطرس أن يُلقي هو وشركاؤه “شباكهم” كلها، لكنه لم يُطِع قول الرب تمامًا وألقى شبكته فقط، فصارت تتخرَّق من كثرة السمك. وفي البداية خاطبه على أنه “مُعلِّم”، لكنه بعد أن اختبر عظمة الله في شخص المسيح، استطاع حقًّا أن يقول “يا رب”.
قد يكون من اللازم لنا أحيانًا أن نجتاز ليلاً حالِكًا من الفشل والحيرة والتعب دون نتيجة حتى يمكننا أن نتبع الرب في طاعة كاملة لكلمته وفي اتكال مُطلَق عليه وحده، وحتى يمكننا أن نختبر (لا فقط أن نعرف) أنه بدون الرب لا يمكننا أن نفعل شيئًا (يوحنا15: 5).
2. «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ»
موقف عصيب: رياح هائجة جدًّا وأمواج «تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ»، والرب يسوع نائم على وسادة في المؤخَّر! التلاميذ في اضطراب شديد وهَلَع. بعضهم يصرخ: “أما يهمك أننا نهلك؟!” وبعضهم: “نَجِّنا!” الرب موجود بنفسه مع تلاميذه في وسط العاصفة، لكنهم مع ذلك يظنون أنها من الممكن أن تقضي عليهم! لكن الرب، الذي لا يحلو له نوم وأحباؤه يصرخون إليه، «قَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَقَالَ لِلْبَحْرِ: اسْكُتْ! ابْكَمْ! فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ».
آه! ما أقل إدراكنا لمن هو الرب! لقد خاف التلاميذ وتعجَّبوا جدًّا بعدما انتهر الريح والبحر، واندهشوا أنها جميعًا تطيعه كطفل صغير بين يدي أبيه، أو كحيوان ينصاع لأوامر مُدَرِّبه! وبينما كانوا يتساءلون: “أيُّ إنسان هذا”، غاب عن أذهانهم أنه هو الله الخالق القادر على كل شيء. ونحن أيضًا كثيرًا ما تحجب العاصفة عن أعيننا إدراكنا لمن هو ربنا يسوع. لكن تشخيص الرب لحالة الخوف هو ضعف الإيمان: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟» (متى8)، أو بالحري انعدامه: «كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» (مرقس4). لتثق فيه، يا عزيزي، فإن الذي معنا في السفينة هو الذي قال: «لِنَعْبُرْ إِلَى عَبْرِ الْبُحَيْرَةِ»، ولذلك فلا بُد حتمًا أننا سنصل إلى الشاطئ الآخر بسلام!
3. «ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا»
ليلة أخرى رهيبة في العُمق، لكن الأمر هذه المرة كان أخطر: كان الرب هو الذي «أَلزَمَ» تلاميذه بالدخول إلى السفينة وعبور البحيرة، لكنه لم يكن معهم بالجسد في السفينة! الظلام يتزايد، والريح العظيمة ضدَّهم، وهُم مُعَذَّبون في وسط البحر! وفي آخر قِسم من أقسام الليل، أتى يسوع نفسه ماشيًا على الماء. ارتعب التلاميذ وظنوا أنه خيال! لكنه شجَّعهم: “أنا هو!”، «فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ، وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا» (يوحنا6). إن ما يُرعِبنا ويعذِّبنا تحت أقدام سيدنا! إنه مُطلَق السلطان على كل شيء: لا شيء يُفلِت من يده ولا شيء يحدث من وراء ظهره.
لكن بطرس، بجرأته المعهودة طلب إلى الرب: «يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ». وبالفعل مشى بطرس على الماء، لكنه خاف لما رأى الريح شديدة وابتدأ يغرق، فصرخ للرب أن يُنَجِيَّه، «فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِه» (متى14). ومرة أخرى نفهم من كلام الرب لبطرس أن المسألة تتعلق بالإيمان. والحقيقة أن علاقتنا مع الرب مبنية أساسًا على تصديقه والثقة فيه لأننا «بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَيَانِ» (2كورنثوس5: 7).
إن مخاوفنا على تنوِّع أسبابها كثيرًا ما تكون غير منطقية. وإذا ما نظرنا فقط للرب وأدركنا مَن هو، فإننا سنكتشف على الفور سذاجتها، فنهدأ ونطمئن ونفرح. إن سيدنا - تبارك اسمُه - هو الذي «جَمَعَ الرِّيحَ في حَفْنَتَيْهِ» وهو الذي «صَرَّ الْمِيَاهَ في ثَوْبٍ» (أمثال30). إنه كُلي القدرة والسلطان، وهو في محبته ورحمته ونعمته وحكمته وصلاحه يُسَرّ بأن يجعلنا نختبر مَن هو ونكتشف مَن نحن؛ وذلك لنتعلق به أكثر فنتشبَّه به ويتغيَّر سلوكنا تدريجيًّا وتنضج شخصياتنا يومًا فيومًا فتسمو حياتنا ونصبح مثله، وفي هذا خيرنا المُطلَق. وهذا هو ما نختبره في الأعماق.
إنِّي كثيرًا ما أرغب في البقاء على الشاطئ، حيث الأمان والراحة وحيث “اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش”. لكنني أود أن أشجِّعك، يا صديقي، أنه لا يمكننا أن نقنع بالشواطئ والرمال، بينما فكر الله من جهتنا هو أن نتقدَّم إلى الكمال.