مشاعر متألمة وأفكار متعلمة

خليط من مشاعر مؤلمة أصابني يومها، والأرجح أنه أصابك أنت أيضًا؛ أليس كذلك؟! فمَن، مِنَ الذين ما زالوا يحتفظون حتى ببعض إنسانيتهم، يقرأ خبرًا مثل هذا أو يشاهد مقطع فيديو كذاك، ولا ينتابه الحزن والغضب والضيق والغثيان أمام حيوات تُقصَف ورؤوس تُقطَع، لا لشيء إلا لأن أصحابها أتباعٌ للمسيح رفضوا إنكار ذلك!! من لا يتفاعل هكذا مع مجرد عنوان مقطع الفيديو “رسالة موقعة بالدماء إلى أمة الصليب”!

لكن إن كان التجوُّل والبحث في مواقع الأخبار والصحف والفيديوهات والصور يصيب بالضيق، فرفعُ العين إلى السماء واللجوء إلى كلمة الله وإله الكلمة، يأتي بالفرج؟ ودعني أشاركك بعض أفكار تعلمت منها.

سبق وأخبرنا

فمع شدة وحشية ما حدث ووطأته الموجعة على النفس، إلا أنه ليس بمستبعدٍ؛ إذ سبق ربنا يسوع المسيح وأخبرنا به، اسمعه يقول «قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِكَيْ لاَ تَعْثُرُوا (لا تتزعزعوا أو تتراجعوا)... تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً ِللهِ (أوَ ليس هذا عين ما حدث؟!)... قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ (وقد أتت مرارًا على مَرِّ التاريخ المسيحي) تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ». فهل نستغرب الآن إذا حدث؟! أم نتيقن من طبيعة الشخص الذي أعلمنا بالأمر قبل أن يحدث؟! لكن كما سبق وأخبرنا إلهنا، الذي يعلم كل شيء من البداية، بهذا، فقد ترك لنا أيضًا الوعد «فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ»، فلتتعزَّى قلوبنا إذًا (يوحنا16: 1-4، 33).

سمات الأيام

تُخبرنا كلمة الله بالآتي «اعْلَمْ هذَا أَنَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أَزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ، لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ... بِلاَ حُنُوٍّ (متحجري العواطف)، بِلاَ رِضًى (غير صفوحين)... شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ (يكرهون الخير)، خَائِنِينَ... لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى (يدّعون علاقة بالله ظاهريًا على عكس الحقيقة)، وَلكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا» (2تيموثاوس3: 1-5). بالتأكيد نحن نرى هذه الصفات واضحة لكل ذي عينين؛ فلنعلم إذًا أنها الأيام الأخيرة. فمن ناحية، علينا أن نكون مستعدين للنهاية، فعلى بعضنا أن يسمع القول «اسْتَعِدَّ لِلِقَاءِ إِلهِكَ» (عاموس4: 12) إذا لم يكن قد سوَّى قضية أجرة خطاياه بالإيمان بالمسيح. ومن الناحية الأخرى للمؤمنين؛ فلنستمع لقول سيدنا «وَمَتَى ابْتَدَأَتْ هذِهِ تَكُونُ، فَانْتَصِبُوا وَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ» (لوقا21: 28)، فعلينا إذًا أن نعيش «مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجعُ» (لوقا12: 36).

لا زال هناك أبطال

لفت نظر الجميع، الثبات الذي تمتَّع به الضحايا ونِصال الذبح تمتد إلى أعناقهم بوحشية الغادر، ولم يَخفَ على أحدٍ كلماتهم الأخيرة التي ظلّوا يرددونها حتى آخر نسمة “يا رب يسوع”. لقد شهد قتلتهم بذلك. رجال لم أرَهم ولا مرة بالوجه، لكني شعرت بمحبة شديدة نحوهم، وباحترام لا يمكن وصفه بالكلمات، فأقل ما يُقال إنهم أبطال. وبِغَضِّ النظر عن محاولات الكثيرين لتفسير هدوئهم بنظريات مختلفة، إلا إني رأيت فيهم شبهًا من استفانوس، شهيد المسيحية الأول، الذي يُخبرنا الكتاب كيف تلقّى العون من الرب يسوع شخصيًا (أعمال7)، فقَبلوا الموت من أجل اسمه. ألمح القتلة بأن الضحايا ماتوا على إيمانهم بالمسيح، ولم يقبلوا غير ذلك، وتم في كل منهم القول «لَمْ تُنْكِرِ اسْمِي» (رؤيا3: 8)؛ فحقَّ لهم الوعد «كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (رؤيا2: 10).

كما شاركهم البطولة أهاليهم الذين ظهروا في وسائل الإعلام المختلفة، وبعكس المتوقع؛ لم يطلبوا نقمة ولا خرجت من أفواههم كلمات صعبة في حق من قتلوا أولادهم، بل في صبر وتسليم للرب طالبين أن يفتح الرب عيون “الداعشيين” ليروا النور، نور المسيح.

نعم الفريقان (الأبناء والأهالي) أبطال، لعلّهم يشجعون الكثيرين من العاثرين، ويزيدون إيمان الكثيرين.

لماذا لم ينقذهم؟

سؤال الأسئلة في هذا الظرف.

هنا دعني أذكِّرك بقول الرب «وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ، وَبَعْدَ ذلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ. بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ... وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ النَّاسِ، يَعْتَرِفُ بِهِ ابْنُ الإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ. وَمَنْ أَنْكَرَنِي قُدَّامَ النَّاسِ، يُنْكَرُ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ» (لوقا12: 4-9). إنه يُعلمنا بأن هذا سيحدث، لكنه يُعلمنا أن القتل محدود فقط بالجسد. لكن الإنسان ليس جسدًا فقط، وقصته لا تنتهي عند حدود باب القبر. القصة أعمق بكثير؛ فالإنسان روح ونفس وجسد، وحياته هنا على الأرض هي فصل واحد من قصته، والتي تكمل بالأبدية التي تتحدَّد بناء على موقفه من المسيح.

لقد أدرك الرجال الثلاثة ذلك أمام تهديد الإمبراطور الغاشم بالسجود للصنم أو الموت، فأجابوه «يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، لاَ يَلْزَمُنَا أَنْ نُجِيبَكَ عَنْ هذَا الأَمْرِ. هُوَذَا يُوجَدُ إِلهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ، وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنْ يَدِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ (هذا الاحتمال الأول والذي تم في الواقع). وَإِلاَّ (حتى إذا لم ينقذنا، وهذا هو الاحتمال الثاني) فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَنَّنَا لاَ نَعْبُدُ آلِهَتَكَ وَلاَ نَسْجُدُ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَهُ» (دانيآل3: 16-18).

فالنظرة الشاملة للقصة، تُلقي الضوء على السؤال. وليرتاح القلب، دعونا نستند على حكمة الله وقدرته وصلاحه وعدله. ولنعلم أن «عِنْدَ الرَّبِّ السَّيِّدِ لِلْمَوْتِ مَخَارِجُ» (مزمور68: 20)، لا مخرج واحد؛ فقد يُخرِج المؤمن من الموت دون أن يَمَسَّه كما فعل مع بطرس في أعمال12، وقد يقيمه بعد موت كما فعل مع لعازر في يوحنا11، أو يخرجه بأن يتقبَّل روحه بسلام إلى الأفضل جدًا كما فعل مع استفانوس في أعمال7. مرات يستخدم قوته في التدخُّل الفوري، ومرات يستخدم حتى شر الأشرار لصالح مقاصده، لكن في هذا وذاك نستطيع أن نرنم «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ (الله يجعل) كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ» (رومية8: 28).

رد الفعل تجاه القتلة

هل انفعلت بغيظ و“دعوت عليهم أن ترى فيهم يومًا” كما يقولون؟ هل طالبت بالانتقام والتشفي فيهم؟

هل تعرف ماذا يريد الرب أن يكون رد فعلك؟

ببساطة ما قاله من القديم «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متى6: 43-48). ولا أعتقد أن هذه الكلمات تحتاج إلى تعليق، وهي لا تقبل تأويل.

إنه التحدي الصعب، لكننا نستطيع كل شيء في المسيح (فيلبي4: 13).

كيف نحب داعش؟!

تباحث الكثيرون في هذا السؤال على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وفي الجلسات وغيرها. وإليك ملخص ما أقنعني مع رأيي الشخصي.

• لن يعرف أن يفعل ذلك إلا من ذاق محبة الرب شخصيًا «نَحْنُ نُحِبُّ (أي تعلمنا الحب كما هي في الأصل) لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (1يوحنا4: 19).

• قبل أن نفكِّر في محبة الأعداء لا بد أن نكون قد نجحنا أولاً في درس محبة بعضنا البعض، المحبة التي «تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ... لاَ تَحْسِدُ... لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّوءَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (1كورنثوس13: 4-7).

• لنتذكر أننا لسنا أفضل من الذين يبغضوننا، لولا نعمة الله التي افتقدتنا. تعوَّد مودي، المبشِّر الشهير، إذا رأى سكيرًا أو سمع عن شر شرير أن يقول: “هذا هو مودي لولا نعمة الله”. فما دمنا لسنا أفضل، فدعنا نتمنى أن تفتقدهم نفس النعمة.

• دروس التاريخ تعلِّمنا أن هناك “دواعش” كثيرون أصبحوا من سكان السماء: شاول الطرسوسي، نبوخذنصر، سجان فيلبي (وتطول القائمة حتى إلى يومنا هذا، وما خفي كان أعجب). تخيَّلوا إذا مؤمنو عصرهم صلّوا أن يهلكهم الرب واستجاب (هذا فرض جدلي مستحيل)!! لكُنّا خسرنا 14 رسالة من أروع الكتابات المسيحية كتبها بولس بالروح القدس، ولخسرنا شهادة نبوخذنصر (دانيآل4: 2) والقول العظيم «آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص» (أعمال16: 31).

• ترى ماذا كان إحساس استفانوس حين وجد شاول الطرسوسي (الذي كان راضيًا بقتله) وصل السماء؟ ولنتحدَّ أنفسنا: لو واحد من القتلة في مشهدنا هذا افتقدته نعمة المسيح وآمن وغُفرت خطاياه بدم المسيح، عندما نراه في السماء، ماذا سنفعل؟ إذا فكَّرنا بتفكير أهل السماء ونحن هنا على الأرض، سنعرف ماذا نفعل الآن.

المزيد

أعلم أن هذه ليست كل الدروس، بل أثق أن الملايين تعلَّمت، وربما لكل واحد درسه الخاص. فماذا عنك عزيزي القارئ؟! هل تكلَّم إليك الله من خلال هذا؟! أرجو أن تكون قد سمعت. وأرجو أن تكون قد استفدت.

إن الحياة قصيرة، ولا يدري أحد متى أو كيف ستنتهي حياته. لكن من الضروري أن تعلم على أي أساس ستكون واقفًا وقتها: على أساس صخر الدهور، ربنا يسوع المسيح والإيمان بعمله على الصليب، الذي يضمن لك رفعة الرأس والأبدية السعيدة؟! أم على أساس واهٍ سرعان ما يهوي بك؟!