حركاته وسكناته، أفعاله وانفعالاته لا تدل على أي نضج في شخصيته، فللمرة الثانية يأتي ضابط القطار ومخبرين سريين ويقومون بتفتيشه. وبينما كان القطار ينطلق كالرصاصة وسط الحقول الخضراء، كان صاحبنا الذي كان يجلس في الكرسي الذي أمامي يوزع ابتسامات باهتة صفراء. مَرَرت بجواره، اقتربت منه - فالرحلة أوشكت على الانتهاء – تعرَّفنا. ولما عرف أني خادم للإنجيل أطمئن لي، ثم قال: “احنا خدنا اليوم بركة، وربنا سترها معانا، وأنا لمؤاخذه، بتاجر في الممنوع، ومحدش بيقدر عليً، ودايمًا وبعون الله بفلت من كل حملات التفتيش، وعلى فكرة البضاعة في العربية الثانية أصلي أنا حاجز تذكرتين في نفس القطر”. فقلت له: “يا (فلان) أنت اليوم فلت من البوليس، لكن أكيد غدًا مش هتقدر تفلت من ربنا”.
صديقي وصديقتي العزيزين: هناك يوم اسمه “يوم الرب” يقول عنه النبي صفنيا: «وَلْوِلُوا يَا سُكَّانَ مَكْتِيشَ... وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ أَنِّي أُفَتِّشُ أُورُشَلِيمَ بِالسُّرُجِ، وَأُعَاقِبُ الرِّجَالَ الْجَامِدِينَ عَلَى دُرْدِيِّهِمِ، الْقَائِلِينَ فِي قُلُوبِهِمْ: “إِنَّ الرَّبَّ لاَ يُحْسِنُ وَلاَ يُسِيءُ”. فَتَكُونُ ثَرْوَتُهُمْ غَنِيمَةً وَبُيُوتُهُمْ خَرَابًا، وَيَبْنُونَ بُيُوتًا وَلاَ يَسْكُنُونَهَا، وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا وَلاَ يَشْرَبُونَ خَمْرَهَا. قَرِيبٌ يَوْمُ الرَّبِّ الْعَظِيمِ. قَرِيبٌ وَسَرِيعٌ جِدًّا. صَوْتُ يَوْمِ الرّبِّ. يَصْرُخُ حِينَئِذٍ الْجَبَّارُ مُرًّا. ذلِكَ الْيَوْمُ يَوْمُ سَخَطٍ، يَوْمُ ضِيق وَشِدَّةٍ، يَوْمُ خَرَابٍ وَدَمَارٍ، يَوْمُ ظَلاَمٍ وَقَتَامٍ، يَوْمُ سَحَابٍ وَضَبَابٍ... لاَ فِضَّتُهُمْ وَلاَ ذَهَبُهُمْ يَسْتَطِيعُ إِنْقَاذَهُمْ في يَوْمِ غَضَبِ الرَّبِّ» (صفنيا1: 11-18). و“مكتيش” كلمة عبرية تعني “جرن” أو “مكان مجوف” أو “هاون”، ويُقصَد بها مدينة أورشليم، وهي جغرافيًا مكان منخفض يحيط به خمسة جبال، وكان سكان أورشليم يحتمون بالجبال، لذلك يقول المرنم مستنكرًا: «أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ، مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي؟ (حاشا، إنما) مَعُونَتِي مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، صَانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» (مزمور121). فكان هذا الشعب يحتمي في الجبال كحماية طبيعية، لذلك كانوا يغيظون الله في بعدهم عنه، وفي اتكالهم على غيره، قائلين: نحن هنا في أمان نحن في الهاون، من يستطيع أن يصل إلينا. وكأن الرب يقول لهم: إذن سأرسل إليكم نبوخذنصر وسأعطيه يد لهذا الهون ليسحقكم، فهناك يوم للسبي وللعقاب، سأبحث عنكم ولن يفلت أحد من يدي، يوم أفتش بالسرج وأعاقب الرجال الجامدين وقساة القلوب.
وحسن هنا أن نورد بعض أنواع التفتيش غير المرغوب والمرغوب كما جاءت في الكتاب.
(1) لابان والتفتيش على الأصنام
لحق لابان يعقوب ابن اخته وزوج ابنتيه الذي هرب منه، وقال له: لماذا سرقت آلهتي؟ فقد كان لابان يعبد الأصنام والأوثان لذلك جاء ليفتش عنها (تكوين31). وعبادة الأوثان هذه ترمز لأشياء ثلاثة خطيرة ومدمرة كالزنا والنجاسة والطمع كما جاء في أفسس5:5، فليحفظنا الرب هاربين من هذا الفساد.
(2) ابن قيس والتفتيش على الأُتن
وما أكثر الذين يبحثون ويفتشون نظير شاول بن قيس الذي سافر خمسة بلاد (1صموئيل9) بحثا وجريًا وراء الأتن، وهذه حيوانات غير طاهرة بحسب الشريعة، فليساعدنا الرب ليكون بحثنا وتفتيشنا عن كل ما هو طاهر، وما هو مسر، وما صيته حسن.
(3) شاول والتفتيش على داود لقتله
ظل شاول يكره داود ويطارده بل ويطلب أن يقتله (1صموئيل26)، فهناك نوع من البشر لا يحلو لهم إلا مطاردة الناس، لذلك تجدهم يدخلون في خصوصياتهم، ويرصدون تحركاتهم، وكل همهم أذية البشر، لينالوا من سمعتهم وأعراضهم.
(4) يفتشون على الأسماء
ما أجمل أن يفتش ويبحث المرء عن مستقبله الأبدي، وعن كتابة اسمه في سفر الحياة، ففي سفر عزرا 2: 62 نقرأ عن قوم كانوا يفتشون على كتابة أنسابهم، فلما لم توجد رُذلوا من الكهنوت. فهل بحثت وفتشت يا صديقي عن كتابة اسمك في سفر الحياة؟! إذن طوبى لك، لقد «رَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ!... (فقال لهم) لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ» (لوقا10: 20). ليتك تفتِّش وتبحث، بل وتتحقق من كتابة اسمك في سفر الحياة!!
(5) الجموع تفتش عن يسوع
إنه أجمل أنواع التفتيش على الإطلاق؛ فيسوع هو الجمال والكمال، هو الأمان وهو السلام، هو الطريق وهو الحق وهو الحياة، هو الرائحة الذكية في عالم رائحته كريهة عفنة تزكم الأنوف. وبينما أنت تفتش عن يسوع، وإذ به هو الذي يبحث عنك ولن يهدأ حتى يجدك. كان السابقون في الماضي يرتلون قائلين: “ياما فتشت في كل مكان على السعادة الحقيقية.. فلم أجد غير الأحزان والذل والعبودية.. لكن من يوم ما قابلت يسوع.. فرحني وفتح لي عيني”.
(6) يفتشون في الكتب
قال المسيح لليهود أنتم تبحثون وتفتشون في صفحات الكتب ليكون لكم حياة أبدية، وهذه الكتب عينها تشهد لي (يوحنا5: 38)، فليت الكاتب والقارئ لا يمل من التفتيش في أجمل وأعظم الكتب لنتمتع بفكر وقول وعمل المسيح فيها.
(7) التفتيش عن الدرهم المفقود
الرب اليوم يفتش عنك لا ليعاقبك بل ليحسن إليك، ويغفرلك ذنوبك، ليبرِّرك ويطهِّرك ويباركك. إنه يبحث عنك بكل الطرق ليصل إلى قلبك كالمرأة التي لها 10 دراهم وأضاعت درهمًا واحدًا قال المسيح عنها: «أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجًا وَتَكْنُسُ الْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِاجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو الصَّدِيقَاتِ وَالْجَارَاتِ قَائِلَةً: افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ. هكَذَا، أَقُولُ لَكُمْ: يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (لوقا15: 8-10).
قرائي الأعزاء
اليوم يوم نعمة، ويوم بشارة، ويوم خلاص. الرب يبحث ويفتش عنك، بالصحة تارة وبالمرض تارة، بالمكسب تارة وبالخسارة تارة، بالوسع تارة وبالضيق تارة أخرى. إنه بكل الطرق والمعاملات يفتش عنك. فلا تبعد عنه، ولا تتعبه في البحث عنك؛ فغدًا لن يفلت أحد من يده لذا ليتنا نتنبه ونتعقل لأن:
اليوم يوم خلاص، لكن غدًا يوم عقاب، يوم ظلام وقتام، بل ويوم قصاص!!