الفيتنامية والعراقية ودرس في المسامحة المسيحية

من الصور التي ستظل محفورة في ذاكرة التاريخ، صورة الطفلة الفيتنامية “كيم فوك” ابنة التسع سنوات، وهي تركض عارية، هاربة من قريتها الفيتنامية الشمالية، لعلها تنجو من أهوال قنابل النابالم التي أحرقت جسدها. كان ذلك في 8 يونيو عام 1972 عندما قامت الطائرات الفيتنامية الجنوبية، بالتنسيق مع القوات الأمريكية، بقصف قريتها “ترانج يانج” بالنابالم، بعدما احتلتها القوات الفيتنامية الشمالية.

واستطاع المصوّر الفيتنامي “نايك أوت” الذي تصادف وجوده في تلك اللحظة هناك، أن يُصوّر الطفلة الصغيرة وهي تركض عارية، بعدما تخلَّصت من ملابسها المُحترقة. ولقد جسَّدت هذه الصورة مدى بشاعة وفظاعة الحرب الأمريكية على فيتنام، وكانت من أسباب إنهاء هذه الحرب.

ولا تزال تلك اللحظات المرعبة تتراءى أمام “كيم فوك” فقالت مرة للصحافيين: “كنا مختبئين. ثم استمع الجنود لأصوات الطائرات فوق المكان، فصرخوا: اركضوا! اركضوا! فهرعت أنا مع إخوتي وأبناء عمي للخروج. وفي اللحظة التي انتبهت فيها لنفسي بأنني عارية، شعرت بأن جسمي يحترق حروقًا أعجز عن وصفها. وفقدت بسببها الوعي.”

وعندما اصطحبها المصوّر إلى مستشفى في “سايجون”، توقع الأطباء أنها لن تعيش طويلاً بسبب الحروق العنيفة. ولكن بعد 14 شهرًا و17 عملية جراحية، عادت “كيم فوك” إلى المنزل. وبعد خروجها من المستشفى بقيت تُعاني من آثار الحروق. وتقول: “كنت أتألم لحظي العاثر. كنت أنظر إلى ذراعي وظهري فأسأل نفسي: لماذا أنا بالذات؟! كنت أعتقد أنني لن أتزوج، ولن أنجب طفلاً. ولكن بمرور الزمن استطعت أن أتجاوز كل ذلك بفضل الله ورعاية عائلتي.”

وعادت “كيم فوك” إلى المدرسة، وازداد اهتمام الإعلام العالمي بها. وكان الصحافيون يزورنها في مدرستها لإجراء مقابلات معها. وأكملت دراستها في جامعة هافانا في كوبا، وهناك تزوجت من الفيتنامي “بوي هوم توم” وأنجبت طفلين: “توماس وستيفان”. وهي تعيش الآن في أونتاريو بكندا مع زوجها وولديها. وفي عام 1997 تم تعينها سفيرة للنوايا الحسنة لمنظمة اليونسكو.

وفي سنة 1996 دُعيت إلى واشنطن لإلقاء كلمة في ذكرى “المحاربين الفيتناميين”، ولوضع إكليل من الزهور تكريمًا للجنود الأمريكيين الذين بذلوا حياتهم في الحرب. وقالت إنها لا تضمر أية ضغينة على الولايات المتحدة، وليس في صدرها غِلٌّ على حكومة فيتنام الجنوبية، وليست حاقدة على الرجل الذي أسقط النابالم عليها!

وفي هذا الاحتفال قابلها الطيَّار “جون لامار” الذي قصف قريتها بالنابالم. واقترب منها باكيًا، محاولاً الاعتذار على ما فعله، وقال لها: “هل تسامحيني؟” فردت عليه: “نعم”. فما كان من الطيَّار إلا أن بكى كثيرًا شاكرًا إياها على صفحها وتسامحها.

وعندما سُئلت عن كيف تمكنت من مسامحة أولئك المسؤولين عما سبب لها آلامًا رهيبة، خلقت فيها ندوبًا مدى الحياة؟! قالت إن فكرة الغفران والتسامح كانت صعبة بالنسبة لها، ولم يستوعبها عقلها بسهولة. ولكن في النهاية قبلت بها بكل رضى وفرح. وكشفت عن السر وراء ذلك إنها صارت مسيحية حقيقية، وفهمت الغفران حقَّ الفهم؛ كيف نتلقاه من الرب، وكيف نبذله، وفهمت ما جاء في كولوسي3: 12، 13 حيث نقرأ عن سبع صفات للمسيح يجب أن تنعكس في حياة كل مؤمن هنا على الأرض منها «مُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هَكَذَا انْتُمْ أيْضًا». لقد غفر لها المسيح خطاياها وسامحها، وباتت بدورها مستعدة للسماح بدورة الغفران والمسامحة أن تجري مجراها.

تقول “كيم فوك” دائمًا: “إن التسامح أقوى بكثير من أي سلاح في العالم. إننا لا نستطيع أن نُغيّر الماضي، ولكن نستطيع أن نعمل جميعًا من أجل مستقبل يعمّه السلام. إن التسامح جعلني متصالحة مع نفسي. ما زال جسدي يحمل العديد من الندوب والآثار والآلام الشديدة في معظم الأيام، ولكن قلبي صافيًا!”

وتذكرت قصة الطفلة الفيتنامية “كيم فوك” وأنا أشاهد الفيديو الذي انتشر بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي عن الطفلة العراقية “مريم بهنام” التي نجت من يد داعش، والذي فيه لقنت العالم درسًا في الغفران والمسامحة، وواجهت داعش بالمحبة، وشكرت الرب على أعمال عنايته بها.

أرادت الطفلة العراقية “مريم” التي تتابع برنامجًا تبثه قناة مسيحية أن تظهر بجوار مقدِّم البرنامج الذي ذهب إلى أحد المخيمات التي تأوي نازحين عراقيين بأربيل، لتسجيل بعض المقابلات وتصوير وضع النازحين. ولم يكن المذيع يعلم أن ابنة العشر سنوات ستلقنه، والعالم أجمع، درسًا في المحبة والمسامحة والإيمان الواثق في الله.

فبالرغم من أنها وأهلها هُجِّروا من منازلهم في قراقوش في شرق الموصل، إلا أنها تشكر الله لأنه أحبهم، وسترهم، فلم يقبل أن يُقتلوا على يد داعش. وأعلنت الفتاة أنها تؤمن أن الله يحب جميع الناس، وبناءً على ذلك هي سامحت مَنْ أذاها وهجّرها من بيتها. وطلبت من الله مسامحتهم، بالرغم من حزنها على ما اقترفه هؤلاء.

ولم تطلب “مريم” الكثير؛ هي أرادت فقط العودة إلى بيتها ومدرستها وأصدقائها. أما أن يكون المنزل أجمل مما كان – كما تمنى لها المذيع – فتركت الأمر إلى الله الذي ترضى بقسمته لها. ومن قلب المأساة التي تعيشها “مريم” كانت تنظر دومًا إلى الله؛ ترضى بقضائه، وتُصلي وتتوسل إليه أن يُسامح مَنْ أذاها.

وكانت كلمات “مريم” سببًا في تأثير غير عادي على ملايين الناس. وفي ظل الإحباط الشديد، والخوف الكبير المُسيطر على قلوب الناس، استطاعت هذه الطفلة أن تبث الأمل والتفاؤل والقوة والمحبة في القلوب الخائرة الضعيفة. وفي نهاية الفيديو فاجأت الجميع وهي ترنم بصوتها العذب، وبنبرات واثقة مطمئنة:

مَا أَبْهَجَ الْيَوْمَ الَّذِي


آمَنْتُ فِيهِ بِالْمَسِيحْ

أَضْحَى سُرُورِي كَامِلاً


وَرَنَّ صَوْتِي بِالْمَدِيحْ


وبعد انتشار هذا الفيديو بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، أجرى الإعلامي “طوني خليفة” اتصالاً على الهواء مباشرة مع “مريم”. ومرة أخرى أعطت “مريم” الملايين درسًا في المسامحة والغفران والقوة، عندما أعلنت أنها لا تشعر بالحقد ولا بالكراهية للأشخاص الذين دخلوا مناطقهم وبيوتهم، وقتلوا أهلها وهجّروهم. وأعلنت بلهجة صادقة واثقة: “أنا باسامحهم لأن الرب سامحنا”. وقالت إنها تُصلي من أجل داعش أن الله ينور عقولهم، ويصيروا أبناء لله، ويكفوا عن فعل الشر، ويعملوا أعمال الخير. وشكرت الرب مرة أخرى على ستره إياهم وعلى عنايته بهم.

وفي نهاية المقابلة قالت إنها عندما تكون خائفة ومنزعجة فإنه تُرنم للرب يسوع. ورنمت بصوتها الرخيم الحلو:

قدمت لي يا ربُّ كل شيء

فاقبل مني بعض الشيء

اقبل مني حياتي حتى الممات

لك أفكاري لك أشواقي

لك أعمالي طيلة الأيام

كد يميني... عرق جبيني

دمع عيوني... لك يا الله

أنت رجائي فيك عزائي

فيك فدائي يا الله

عزيزي: ما أحوجنا إلى غفران المسيح وحنُّوه لشفاء أنفسنا من المرارة والرغبة في الانتقام، ولشفاء جراح الآخرين وقساوة قلوبهم!