لا شك أنَّ مشهد ذبح مجموعة من المسيحيين على أيدي تنظيم “داعش” الإرهابي أوجع قلوب الكثيرين وأبكى الملايين ممن لهم حتى ذرة إنسانية باقية أو ضمير لا يزال حيًّا.
لماذا؟ لكي نجيب على هذا التساؤل الصارخ، علينا الرجوع ليس إلى الإعلام والمحلِّلين، بل بالأولى إلى الكتاب المقدس الثمين، لنعرف حقيقة الأمور وأصولها وجذورها.
فالحقيقة ليست وليدة اليوم، بل هي ممتَّدة عبر عصور وأجيال منذ أول عائلة عرفها التاريخ، وبين أول شقيقين من آدم وحواء. فبعد السقوط مباشرة، في تكوين3، نقرأ عن أول داعشي في التاريخ، أول متديَّن وأول قاتل كذلك: قايين الذي قام على أخيه هابيل وقتله! وفي البداية أدعو القارئ العزيز ليقرأ في هدوء وتأمل سفر التكوين والأصحاح الرابع ويتوقف معي أمام الحقائق الواضحة الآتية:
* قايين كان هو السبَّاق في تقديم العبادة لله (وليس للأوثان)! ولكن من أثمار الأرض، وليس الذبيحة كما نتعلم من الأصحاح السابق عندما كسا الرب الإله آدم وحواء بجلد ذبيحة حيوانية. لقد أراد الاقتراب إلى الله بأعماله وعرقه وليس على أساس الكفارة والبدلية؛ فلم ينظر الله إلى قرابينه.
* هابيل كان راعيًا وواعيًا. فقدَّم من غنمه للرب؛ فنظر الرب إلى قربانه المؤسَّس على الذبيحة وليس على أعماله.
* أول خلاف وغيرة في التاريخ جاءت بسبب الدين فقط، ومفهوم العلاقة مع الله. ويقول الكتاب «كَانَ قَايِينُ مِنَ الشِّرِّير» (1يوحنا3: 12)، وذلك قبل أن يقدِّم قربانه. فقايين لم يكن يقدِّم حُبًّا في الله ولكن حُبًّا في ذاته وإشباع غريزة التديُّن لديه.
* الله كان يحب قايين مثل محبته لهابيل، لكن الأول أختار أن ينتقم من أخيه عوضًا من الاستفادة من نصائح المحبة التي وجَّهها الله إليه. لقد اغتاظ قايين من الله الذي ارتضى بهابيل وقربانه المبني على الذبيحة، ورفض ما قدَّمه هو، ففرَّغ غيظه من الله في أخيه هابيل!
* بدلاً من طاعة النصيحة الإلهية خطَّط قايين للانفراد بأخيه هابيل، وتكلَّم معه وهو ما قد يتضمن أنه توعَّده وهدَّده، ثم انتهز فرصة انفراده بأخيه في الحقل وقتله!
* ولكن كيف تمت أول عملية قتل بشرية في التاريخ؟ كيف قتل قايين أخاه هابيل؟ يقول الكتاب بالحرف «ذبحه» «وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ» (1يوحنا3: 12).
* كيف ذبح قايين أخاه؟ بالتأكيد مثلما ذبح هابيل غنمه التي قدَّمها للرب ذبيحة مقبولة. أما ما قدَّمه قايين فالكتاب يتكلم عنه باعتباره “أعمال شريرة”. هذه هي عبادة قايين ودينه التي كانت في نظر الله “أعمال شريرة”!
ومن هذه الملاحظات السبعة السابقة يمكننا الخروج بالدروس الخمسة التالية:
** أن الكتاب المقدس يحدِّثنا بعد قايين بآلاف السنين عن «طَرِيقَ قَايِين» (يهوذا1: 11)، وهو ما يعني أن طريق قايين بدأ طريقًا ارتاده من بعده – ولا يزال – الملايين ممن يظهرون بصورة التقوى، ومظاهر التديُّن وهم من الشرير (أي إبليس) الذي قال عنه الرب يسوع أنه جاء لكي «لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ» (يوحنا10:10)، سواء قتلوا وذبحوا حرفيًا أو معنويًا.
** أن هابيل يأتي في مقدِّمة سحابة الشهود (عبرانيين11)، وكان هو أول شهيد في التاريخ ذُبح لا لجُرم اقترفه سوى لأنه يعبد الله الحي الحقيقي بطريقة صحيحة! ويقول عنه الكتاب «بِالإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ ِللهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ. فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ اللهُ لِقَرَابِينِهِ. وَبِهِ، وَإِنْ مَاتَ، يَتَكَلَّمْ بَعْدُ!» (عبرانيين11: 4). ولعل كلمة “شاهد” قريبة معنًى ومبنًى من كلمة “شهيد”. فالشهادة لله في عالم معادٍ له قد تحمَّل معها الاستشهاد، كما حدث في تاريخ شعب الله القديم، وتاريخ الكنيسة الطويل، وحتى اليوم. أما آجَالُ هؤلاء الأتقياء فهي في يد الله وحده وليس في يد الشرير ولا الأشرار.
** أن تطور الحضارة البشرية والتقدُّم التكنولوجي المُذهل والفلسفات الإنسانية وغير ذلك مما لا يحصى من العلوم الإنسانية والاجتماعية على مدى أكثر من ستة آلاف سنة لم تنجح – ولن تنجح – في تغيير طبيعة الإنسان! ليس سوى الله وحده في نعمته هو الذي بمقدوره أن يغيِّر قلب الإنسان ويبدِّل طبيعته، وبالتالي تغيَّر مساره ومصيره. هكذا قال المسيح بوضوح لرجل دين محترم هو “نيقوديموس” «يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ (من جديد)» (يوحنا3: 7).
** أن الله المحب لم يتغير، وكما دعا قايين لأن يحذو حذو أخيه هابيل ويقترب إلى الله بالطريقة الصحيحة على أساس الذبيحة، ما زال يدعو الملايين المتديّنين ليقتربوا إليه عن طريق المصالحة التي عملها الرب يسوع المسيح على الصليب منذ نحو ألفي عام. ونحن لا ننسى شاول الطرسوسى الذي قَبِلَ دعوة الإنجيل، فتحوَّل من أول الخطاة، من إرهابي قاتل شرس إلى رسول الأمم وخادم الكنيسة.
** أن حماية الله لقايين بعد ذبحه لأخيه، كانت من منطلق رحمة الله، وإعطائه مزيدًا من الوقت والعمر ليتوب ويرجع. ولا يظن أحد أن أناة الله على هؤلاء القتلة والمجرمين أمثالهم معناها أنه يتغاضى عن جرائمهم أو يهمل عقابهم أو يلغي دينونتهم لأنَّ «الرب ينظر ويطالب...» (2أخبار24: 22). «أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟» (رومية2: 4). «وَلكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ،» (رومية2: 5).
أحبائي.. القصة إذًا مؤلمة ولكنها ثرية بمعانيها. ليست جديدة، ولن تكون الأخيرة حتى ينتهي دور شهادة هابيل ورفاقه بمجيء المسيح قريبًا لاختطاف قديسيه من هذا العالم البائس. وحتى ينتهي طريق قايين ورفاقه بظهور المسيح ودينونته وملكه السعيد العتيد.