لم يتبقَ لي في برنامج زيارتي لمدينة الخرطوم بحري السودانية إلا يومًا واحدًا، وتبقَّت لي زيارة أخيرة، وقد كانت زيارة صعبة وثقيلة: شاب في غرفة العناية المركزة بإحدى المستشفيات يعاني من سكرات الموت، ألحَّ عليّ أصدقاؤه ومعارفه أن أزوره هناك، وأقدِّم له المسيح كمخلِّص شخصي له، لعلَّ السماء تقبله ولو في لحظاته الأخيرة.
صلّيت حتى يعطيني الرب كلامًا مناسبًا لشاب يحتضر في غرفة العناية المركزة. أخذوني إلى المكان، وتمزق قلبي عندما رأيت الوالدين منهارين وهما يفترشان الأرض، يجلسان على السلم المجاور لغرفة العناية. صافحتهما وشجَّعتهما، وهما بدوريهما دعيا لي أن أنجح في مهمتي الشاقة، لعل ابنهما يستفيق من غيبوبته ولو لبضع دقائق حتى يسمع رسالة الإنجيل، ويقبل البشارة ويؤمن بيسوع المخلص، ويفوز بعفوه وغفرانه، ويتمتع بحبه وحنانه.
دخلت الغرفة، فوجدتها مكتظَّة بالمرضى، وأغلبهم على أجهزة التنفس الصناعي. قادني الممرِّض إلى الشاب المقصود، الذي كان يتنهد بصوتٍ عالٍ، ويستنشق الأكسجين من قناعه بصعوبة بالغة. ناديته باسمه مرات عديدة، فلم يكن مصغٍ أو مجيب. اقتربت منه وانحنيت نحوه، ووضعت فمي في أذنه، لكني صُدمت عندما وضعت يدي على رأسه، وكأنك وضعتها في أتون، فجسمه ساخن جدًا، ودرجة حرارته تتعدى الأربعين. ظللت أتضرَّع وأنادي على الرب تارة، وعلى الشاب تارة أخرى. وكرَّرت ذلك مرة ومرات.
وقبل أن أفشل وأفكِّر في الإنصراف، رحمني الرب واستجاب لي، إذ فتح الشاب عينيه؛ فقلت له: “انا فلان، خادم من مصر، هل تصلي معي وتقبل الرب يسوع المسيح الذي يحبك”، فأومأ بالموافقة فقلت له: “قُل في نفسك وكرر خلفي هذه الصلاة: يا رب يسوع ارحمني واقبلني واغسلني بدمك من خطاياي...” لكن يبدو أنه لم يكمل الصلاة، وراح في غيبوبة أخرى. انتظرت، فعاد وفتح عينيه. قلت له هامسا في أذنه: هل طلبت الرب؛ فهز رأسه راضيًا، فليس أمامه اختيار آخر، غير طلب يسوع، نحتمي فيه ونلجأ إليه في هذه اللحظات العصيبة. فهمست وقلت له ثق فيه فهو يقينًا سمعك وقبلك، هز رأسه راضيًا.
حاولت مواصلة الحديث لكنه غاب تمامًا عن الوعي، ودخل هذه المرة في غيبوبة عميقة. ولكني شكرت الرب الذي أفاقه بعض اللحظات حتى يلتقط بعض الكلمات، ويصلي بها، وهذا اسعدنا جدًا. وشعرت أنه طمع مني أن أطلب من الرب شيئًا إضافيًا آخر. وقبل الخروج، نظرت حولي، فلم أجد المرضى الباقين في الغرفة أفضل حالاً من الشاب صديقنا، فرفعت قلبي إلى الرب طالبًا الرحمة لكل من في الغرفة، واستودعتهم في يد الرب الأمينه.
عند خروجي، استقبلني الوالدين بلهف، فأخبرتهما بما حدث، لعل يطمئن قلبيهما على ابنهما من جهة مصيره الأبدي..
عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة:
لا شك إنك ركَّزت معي وبعناية، واستوعبت درس العناية المركزة: أن وقت التوبة والرجوع إلى الرب هو الآن وليس غدًا:
«هَذَا وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ الْوَقْتَ أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا» (رومية١٣: ١١).
فليتنا نستغل الوقت ونحترمه ونستفيد منه قبل أن يضيع من بين أيدينا:
«لِذَلِكَ يَقُولُ: اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ. فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ» (أفسس٥: ١٤-١٦).
فالوقت غال جدًا وثمين جدًا ولا يُقَّدره سوى من ضاع منه:
«وَمَاتَ ا لْغَنِيُّ أَيْضًا وَدُفِنَ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي ا لْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي ا لْعَذَابِ وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ا رْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا ا للهِيبِ.» (لوقا ١٦).
لكن صلاة الغني لم تُستجب، لأنها في الوقت الخطإ، وللشخص الخطإ، وفي المكان الخطإ. نعم لأنها توبة بعد فوات الآوان، وموجَّهة لإبراهيم وليس للرب، وفي الهاوية وليست في الأرض.
* فالصحة تاج على رؤوسنا نحن الأصحاء لا يقدِّره سوى المرضى..
* فأن كنت تأكل وتشرب وتتحرك.. هذه نعمة من الله غيرك لا يمتلكها.
* وإن كنت تستطيع أن تتنفس وقلبك ينبض بالحياة.. فهذه عطية غنية، حُرم منها الكثيرون.
* وكونك تفتح عينيك، وتسمع بأذنيك، وتملأ صدرك بالهواء الطبيعي.. هذا فضل ليتك تستغله جيدًا.
* وإن كنت تسمع، وتفكِّر، وتقرِّر.. هذا إحسان كبير؛ فقد يأتي وقتٌ يصمت الفم، وتُغلق العين، ويتوقَّف القلب.
«لذلك كما يقول الروح القدس: اليوم، إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم» (عبرانيين٣: ٧).
إننا بكل حب واخلاص نصرخ في أذنيك قائلين:
التوبة الآن وليس غدًا...