أخلاقيات الملوك

يذخر التاريخ بمواقف مشرِّفه لأُناسٍ بُسطاء تصرَّفوا بشيمِ العظماء.. وكم تأثَّرت وأنا أشاهد مقطع حقيقي لأب فى المحكمه يقف وجها لوجه مع مجرم قاتل ابنته، يعلن لهذا المجرم أنه قد سامحه، بل ويطلب من الله أن يفتح قلبه لينال الخلاص الأبدي. إنها أخلاقيات ملوكية؛ تتسامي وتعلو وتصفح، وتختلف عن سفاهة الصعاليك التى لا تعرف إلا القتل والنهب.

ما أحوجنا الى مثل هذا السمو، سمو الأخلاقيات الأدبية الراقية، التى هي بحق ”أخلاقيات الملوك“ وسِمَةِ العُظماء الحقيقيين. فيا تُري ماهي أخلاقيات الملوك هذه؟!

في صورة واضحة ومفارقة صارخة بين شخصيتين في التاريخ، نستطيع أن نكتشف بسهولة، أن الملوك الحقيقيين قد لا نجدهم علي عروش الأرض أو في القصور الفاخره، بل فى أبسط الأماكن وأقل الأمكانيات!! نري البسطاء عظماء، وقد نري علي العروش صعاليك أدنياء!!

أولاً: الملك الصعلوك.. والصغير العظيم!!

في واحده من القصص الدراميه الواقعيه والتي سردها الكتاب المقدس، قصة شاول الملك وداود، والتي يدهشني فيها أخلاقيات كل منهما؛ حتي أجد نفسي متسائلاً: من هو الملك ومن هو الصعلوك؟!

١. الأنانية أم التضحية: قال الرب عن شاول الملك إنه سيعمل كل شيء لا لصالح شعبه بل لنفسه « يَأْخُذُ بَنِيكُمْ وَيَجْعَلُهُمْ لِنَفْسِهِ...» (١صموئيل٨: ١١). بينما قيل عن داود الذي كان من عامة الشعب وقتها «فَإِنَّهُ وَضَعَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ وَقَتَلَ الْفِلِسْطِينِيَّ فَصَنَعَ الرَّبُّ خَلاَصًا عَظِيمً» (١صموئيل٥: ١٩).

٢. الألفاظ النابية والكلمات الراقية: ما أردأ ألفاظ من شاول هذا المفروض أنه ملك! فمرة يهيج علي ابنه يوناثان بسبب محبة ابنه لداود، وشتمه بأصعب الألفاظ «يا ابن المتعوجة المتمردة»!! فياللعار! بينما، علي الجانب الآخر، استمع الي ألفاظ داود، حتي في أصعب المواقف التي أراد فيها شاول قتله، قال له «فانظر يا أبي انظر... إنه ليس في يدي شر ولا جرم... يقضي الرب بيني وبينك» (١صموئيل٢٤: ١١) فيا للسمو!! لقد صلى هذا الصغير الكريم قائلاً « ١٤ لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي» (مزمور١٩: ١٤).

٣. العفو أم الانتقام: أراد شاول قتل داود عدة مرات دون ذنب، حتى داود أندهش – وأنا معه - أن ملك كبير يطارد شابًا صغيرًا دون سبب (١صموئيل٢٤: ١٤). بينما لمعت أخلاقيات داود وهو في موقف مشابه، مع اختلاف الأداور، عندما وقع شاول بين يديه، وكان في قدرته قتل شاول وهو نائم، لكنه ترفَّع ومنع رجاله من المساس به قائلاً « «حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هذَا الأَمْرَ بِسَيِّدِي، بِمَسِيحِ الرَّبِّ» (١صموئيل٢٤: ٦). وهذا أدهش شاول جدًا حتي أنه بكى وقال «أَنْتَ أَبَرُّ مِنِّي، لأَنَّكَ جَازَيْتَنِي خَيْرًا وَأَنَا جَازَيْتُكَ شَرًّا». تُرى عزيزي، من كان الملك من أمتلك أخلاقيات العظماء: شاول أم داود؟!

٤. الالتصاق بالرب أم الرفض من الرب: إن السرَّ الذي جعل الملك حقيرًا، والذي جعل الصغير كبيرًا؛ ليس هو انتخاب البشر، ولا العرش ولا القصر، إنما الالتصاق بالرب أو رفضه!! فلقد قيل عن شاول " مَاتَ شَاوُلُ بِخِيَانَتِهِ الَّتِي بِهَا خَانَ الرَّبَّ مِنْ أَجْلِ كَلاَمِ الرَّبِّ الَّذِي لَمْ يَحْفَظْهُ» (١أخبار١٠: ١٣). بينما وصف الرب داود بهذا التعبير الرائع «وَجَدْتُ دَاوُدَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي، الَّذِي سَيَصْنَعُ كُلَّ مَشِيئَتِي» (أعمال١٣: ٢٢).

إن معرفة المسيح والتطهُّر بدمه الكريم، والامتلاء بروحه، تجعل مني ومنك ملوكًا بحق أمام الله، وشرفاء أمام الناس؛ فهل أنا وأنت هكذا؟!

ثانياً: الأمير الذي يحاكَم أمام الحقير!!

لا أريد أن أنهي الحديث، دون التحوّل إلى هذا الكريم والشريف الأعظم، الذي مع كل سموه، وقف أمام عبدٍ حقيرٍ لكي يحَاكَم منه، ومع ذلك أظهر هذا الكريم كل سمو أخلاقه ونبل صفاته.. إنه الرب يسوع المسيح، في وقفته أمام بيلاطس وهيرودس لمحاكمته.. المذهل: مَن يُحاكِم مَن؟!

وأكتفي بإشارتين لتوضيح من هو الملك الحقيقي وأخلاقياته، الذي جلس علي الكرسي أم الواقف أمامه.

١. الفارق الأدبي والأخلاقي الشاسع: ما أبعد الفارق بين المسيح وغيره!! إنه المُعلَمٌ بين رِبوة (١٠٠٠٠)، العجيب المشير الإله القدير!! كان هيرودس ملكًا على العرش، لكنه منحطًا أدبيًا وشهوانيًا دنيئًا، لا تحكمه قوانين ولا تضبطه مبادئ؛ فلأجل شهوته وعشيقته قتل أعظم المولودين من النساء، يوحنا المعمدان، فقط لإرضاء راقصة فاجرة وأمها!! فأين الأخلاق؟! وهل يمكن أن نسمي هذا ملكًا؟!

أما ربنا يسوع المسيح، فرغم أنه لم يكن له مكان ليبيت، لكن في حب وسمو أدبي جال يصنع خيرًا، عاش لا ليُخدَم بل ليخدُم، يتحنن ويشفق، يشفي ويُشبع، يُخلص ويُعلٍّم، يُعطي ويبذل حتي نفسه. فشهد عنه الضابط الروماني «حقا كان هذا الانسان ابن الله» (مرقس١٥: ٣٩).

٢. التمسك بالحق حتي النهايه: وأليست هذه من شيم الملوك والعظماء؟!

وقف ربنا يسوع يُحاكَم أمام بيلاطس، الذي بالرغم من اقتناعه بأن المسيح هو الحق، ومن الناحية القضائية المسيح أيضًا كان بلا علة، لكن خوفُا على منصبه وكرسيه باع الحق وأسلم يسوع ليصلب، وأطلق باراباس المجرم حرًّا بريئًا لإرضاء الشعب!! أمثل هذا يكون أميرًا أم حقيرًا، عادلاً أم مجرمًا؟!

أما الملك الحقيقي، ربنا يسوع، فأصر أن يقول الحق، ويعيش الحق، ويموت لأجل الحق، قائلاً « لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ» (يوحنا١٨: ٣٧).

ويالسموه، حتى وهو يموت على الصليب يتوسل لله قائلاً «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا٢٣: ٣٤).

إخوتي الأحباء، إن العظيم ليس من يمتلك الأشياء أو يجلس في المناصب المرموقة، أو يعيش في فخامة الممتلكات، فلم تعطِ الأشياء أبدًا قيمة لصاحبها، لا وألف لا.. فالحكيم سليمان يقول «اَلْبَطِيءُ الْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ الْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً« (أمثال١٦: ٣٢).

إن العظمة والسمو هو أمر داخلي وليس خارجيًا، أدبيٌ وليس ماديًا، أبديٌ وليس وقتيًا. إنه سمو الأخلاق والصفات وليس الأشياء والممتلكات. وهذا يأتي عندما يُحلّ المسيح بالإيمان في القلب، وتتعمق كلماته في الفكر، ويمتلك روحه القدوس كل اتجاهات الحياة.