حزين المديون وابو العز الحنون

صديقي “حِزيِّن” قصّته غريبة جدًا. كان يعمل وكيلاً في دائرة الباشا الذي وكَّله على كل شيء. ولكنه ذات يوم تورَّط في جريمة اختلاس، وكانت النتيجة الطرد من الدايرة؛ فظلّ تائها وهاربًا في الأرض. وأثناء هربه، وقع بين لصوص فعروه وجرَّحوه ومضوا وتركوه بين حيٍ وميت، فأمسى عريانًا مجروحًا جائعًا مديونًا. أراد أن يغطّي عريهِ بورق التين فلم يفلح، وأن يسُدَّ رمق جوعه بالخرنوب فلم يشبع، وأن يوفي ديونه وأعوازه بجلوسه على الطريق يستعطي فلم ينجح. وأصبحت كل أيام حِزيّن شقية، فهو مطلوب أمام العدالة ليسُدّ ديونه.

وفي ذات يوم، قُبِضَ عليه وقُدِّمَ للعدالة ووُضع في قفص الاتهام، وكانت قضيته مشهورة جدًا؛ فذهب كثيرون إلى قاعة المحكمة ليشاهدوا ماذا يحدث، وذهب أيضًا لتغطية هذه المحاكمة ٤٠ مراسل من أجهزة الإعلام من انحاء العالم لتغطية هذا الحدث الرهيب. وكان من بين الحاضرين ثلاثة أشخاص وهم على الترتيب: عبد الرحيم، وعبد الغني، وأبو العز.

الكل ينظر إلى حِزيّن بثيابه الرثَّة الممزقة في قفص الإتهام، وتلت النيابة التهم الموجهة إليه بعبارات بليغة وموجزة قائلة إنه لم يترك عضوًا في جسده إلاّ واستخدمه «آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ» (رومية٦: ١٣). وها هو تقرير الطب الشرعي أن: «اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ» (إرميا١٧: ٩)، «حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سِمُّ الأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ (اللسان ماكر) وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً (الأرجل) أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ» (رومية٣: ١٣-١٥). الأيدي «مَلآنَةٌ دَمًا» (إشعياء١: ١٥). العيون «مَمْلُوَّةٌ فِسْقًا، لاَ تَكُفُّ عَنِ الْخَطِيَّةِ» (٢بطرس٢: ١٤)، «كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ» (إشعياء١: ٥-٦). إني أطالب بتوقيع أقصى العقوبة على المتهم إذا لم يسدّد الدين. هكذا أنهت النيابة إدعاءها.

قام “عبد الرحيم” وقال للمتهم: “قلبي معاك يا حِزيِّن يا ولدي، ولكن الدَين أكبر من إمكانياتي وقدراتي، أنا مُتعاطف معاك بس مش قادر أعمل حاجة”. وجلس.

بعده قام “عبد الغني” وقال: “يستحق العقوبة.. بإمكاني دفع الدين، ولكن لماذا أدفع لشخص لا يستحق شيء إلا العقاب”.

تبادر إلى الأذهان خاطر: “عبد الرحيم في قلبه رحمة ولكن جيوبه فاضية، وعبد الغني جيوبه مليانة لكن قلبه مفيهوش رحمة.. آه لو نلاقي شخص يكون عنده الصفتين دول الغنى والرحمة.. ونجيب منين شخص غني ورحيم؟ أو يكون غني في الرحمة لكي يقوم بتسديد الدين؟”

وهنا قام “أبو العز” وكان غنيّا ورحيمًا أو«غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ» (أفسس٢: ٤)، وتقدَّم إلى مَنصَّة القضاء قائلآً «إِنْ كَانَ... عَلَيْهِ دَيْنٌ... فَاحْسِبْ ذلِكَ عَلَيَّ... أَنَا أُوفِي» (فليمون١٨، ١٩). فوفىَّ كل الديون. وهنا نطق القاضي بالبراءة لسداد الدين، وبصوت مدوي جلجل أرجاء القاعة قال «إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ» (رومية٨: ١)، والآن «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ» (يوحنا١١: ٤٤). فوثب حِزيّن «وَصَارَ يَمْشِي، وَيُسَبِّحُ اللهَ وَأَبْصَرَهُ جَمِيعُ الشَّعْبِ... وَعَرَفُوهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ...» (أعمال٣: ٨)، «وَذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحًا» (أعمال٨: ٣٩)، «يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ، وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ. فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ، فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ» (أيوب٣٣: ٢٧-٢٨).

ولكن بعد أن خرج حِزين من قاعة المحكمة فَرِحًا لم يجد معه شيئًا يقتات منه. نَعَم تم تسديد ديونه بالكامل، هنا ظهرت مشكلةً أخرى خلاف سداد الدين، وهي سداد الأعواز؛ فكيف تُسدد احتياجاته طول الحياة. فبدأ الخوف يدُبُّ في قلبِهِ مرةً أخرى ويفقد فرحه وسلامه وضاق به الأمر جِدًا لدرجة أنه «شَقَّ ثِيَابَهُ وَلَبِسَ مِسْحًا بِرَمَادٍ وَخَرَجَ إِلَى وَسَطِ الْمَدِينَةِ وَصَرَخَ صَرْخَةً عَظِيمَةً مُرَّةً» (إستير٤: ١) قائلاً «وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟» (رومية٧: ٢٤)، ويقول لنفسه أنا حِزين «كُلُّ أَيَّامِ الْحَزِينِ شَقِيَّةٌ» (أمثال١٥: ١٥).

وفي غمرة مخاوفه وأحزانه؛ إذ بأبي العز يأتي ويقول له: لماذا لم تأتِ لتجلس معي، فعندي لك أمور عظيمة «اُدْعُنِي فَأُجِيبَكَ وَأُخْبِرَكَ بِعَظَائِمَ وَعَوَائِصَ لَمْ تَعْرِفْهَا» (إرميا٣٣: ٣). فقد صرفت لك شيك الرحمة في قاعة المحكمة، وهو كافٍ لسداد الدين، ولكني معي شيكًا آخر ليس لسداد الدين بل لسداد الاحتياجات في الطريق، فأنت تحتاج إلى الفرح والسلام والضمان وهدوء البال؛ فإذا كنت تمتعت بغنى الرحمة لسداد الدين لكني أريد أن أمتعك بـ«غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس١: ٧)، النعمة التي تجعلني «الْمُقِيمِ الْمَسْكِينَ (مثلك) مِنَ التُّرَابِ، الرَّافِعِ الْبَائِسَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لأجلسه مع أشرافٍ» (مزمور١١٣: ٩). فغنى الرحمة يعفيك مما تستحقه من عقاب، وغنى النعمة يمنحك مما لا تستحقه من ثواب. وهنا وضع الرجل يده في جيبه وأخرج شيكًا آخر (مقبول الدفع) مكتوب عليه غنى النعمة يصرف من بنك النعمة، وأعطاه لحِزين الذي أخذه هاتفًا «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ، إِلَى هذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ» (رومية٥: ١-٢) وشدى مرنّمًا «شُكْرًا ِللهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ» (٢كورنثوس٢: ١٤)، «الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ» (مزمور٢٣: ١).

بعد ذلك حدث شيء لم يكن حِزيّن يتوقعه إطلاقًا، فقد دعاه “أبو العز” إلى قصره فذهب وهو «مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ» (عبرانيين١٢: ٢١)، وهو يتساءل: ماذا يا تُرى؟ فوصل إلى القصر، فإذ به يُفاجأ بالرجل المحترم يقول له «وَأَنْتَ تَأْكُلُ خُبْزًا عَلَى مَائِدَتِي دَائِمًا كَوَاحِدٍ مِنْ بَنِي الْمَلِكِ» (٢صموئيل٩: ٧، ١١). وهنا أخرج شيكًا آخر مكتوب فيه «غِنَى مَجْدِ» (أفسس١: ١٨). وحدث ما لا يمكن أن يتوقعه إنسان، فقد أعطاه شهادة ميلاد قائلاً «فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي» (أفسس١: ٥). وهنا بدأ حِزيّن يخاطب الرجل قائلاً: «يَا أَبَا الآبُ». وهتف قائلاً لست بعد عبدًا بل ابنًا وإن كنت «ابْنًا فَوَارِثٌ ِللهِ بِالْمَسِيحِ» (غلاطية٤: ٦، ٧).

هذه قصة حِزيِّن.. حِزيِّن هذا يمكن أن يكون أنا وأنت عزيزي القارئ، والله صاحب العز والكرم ينعم بغنى الرحمة وغنى النعمة وغنى المجد.

والسؤال للقارئ العزيز هل تمتعت بغنى الرحمة أم لا؟ لا تؤجل تعال إليه.

ولكن إن كنت تمتعت بغنى الرحمة فلك غنى النعمة؛ لماذا تعيش فقيرًا؟ إن لك في المسيح غنى النعمة يمتعك بالسلام والفرح، وغنى المجد الذي يجعلك تتمتع بحقك في البنوية لله.