تعوَّدنا أن نسمع ونشاهد هذه النوعية من الإعلانات: احجز ڤيلتك في الكومباوند الفلاني، أو امتلك شاليهك على الساحل العلاني، أو سارع بالحجز في المدينة الفلانية، ويصوِّر الإعلان أبًا وأمًا وأولادهما وهم يمرحون في الحديقة الواسعة، ويجلسون بأريحية على حمام السباحة، وتظهر ابتساماتهم عريضة للملإ.
وكثيرًا ما جاءتنا هذه النوعية من الإيميلات emails: فرصة هجرة عظيمة لأمريكا أو استراليا أو كندا، وتظهر فيها صور ناطحات السحاب العملاقة، وأشكال المدارس والمستشفيات والمكتبات النظيفة، وعنوان الإيميل: هل تريد أن تعيش سعيدًا؟
فعبر عشرات السنين ظنَّت الأكثرية من البشر، أنه كلما تحسن الوضع المادي والاقتصادي لها، كلما زاد منسوب السعادة في حياتهم وملأ الفرح أرجائهم. ولكن هل فعلاً توجد علاقة بين الرفاهية وبين السعادة؟!
مؤشر السعادة
هو ما يعرف بمؤشر السعادة العالمي Happy Planet Index HPI، والذي يقيس مدى السعادة في الدول والمجتمعات، استنادًا إلى بعض الإحصائيات الاقتصادية، ومئات الآلاف من المقابلات الشخصية، فيسألون الناس بعض الأسئلة مثل: هل تشعر بالرضا؟ هل تريد الهجرة؟ هل يكفيك دخلك؟
والحقيقة أن من يطالع ترتيب دول العالم في قائمة مؤشر السعادة (طبقًا لتقرير نشره موقع الإذاعة البريطانية BBC في ٢٤ يونيو ٢٠١٥ )، سيكتشف أن دولة صغيرة مثل بنما (ربما لا يعرف القارئ مكانها على الخريطة) تصدِّرت مؤشر السعادة لعام ٢٠١٥، بينما واحدة من أغنى دول في العالم؛ الولايات المتحدة الأمريكية، كانت في المركز ٢٣ عالميًا!! ووجدوا أن سبب الحزن عند أغلب الأمريكان هو افتقادهم للروابط الاجتماعية الدائمة، ولهذا استنتج المراقبون أنه ليس شرطًا أن ترتبط السعادة بمستوى الرفاهية، فالسعادة لها أكثر من مفتاح.
والعجيب أن علماء الاجتماع لاحظوا أيضًا من خلال هذا المؤشر، أن دولة مثل اليابان، احتفظت بمركزها في مؤشر السعادة في عام ٢٠١١، رغم أنها عانت من زلزال مدمر قتل المئات وشرد الآلاف، والسبب هو تعامل اليابانيين المتحضر مع الأزمة، وتعاونهم معًا لتجاوز هذه الكارثة، وهو ما أدخل نوعًا جديدًا من السعادة إليهم، فالسعادة لا تنتهي عند الأزمات.
زيف السعادة
وإن كان هذا كلام العلم ونظرة الواقع، فعندنا ما هو أثبت (٢بطرس١: ١٩) بكثير؛ وهي كلمة الله الخبيرة بكل صنوف البشر، والتي تحكي لنا عن أغنياء كثيرين عاشوا في مستوى عالٍ من الرفاهية، ومع ذلك غابت مفردات السعادة بالكامل عن حياتهم.
ومنهم هذا الغني الذي «كَانَ يَلْبَسُ الأَرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفّهًا» (لوقا١٦: ١٩)، فعناصر الرفاهية التي كانت لديه، كانت في ملابسه الفاخرة، وفي هيئته البهية، وفي استمرار تنعمه بكل ما لَذَّ وطاب، وهو أمر لا يستطيع أحد أن يلومه عليه.
ولكن المشكلة أن هذا الغني كانت مشاعره متحجرة وعواطفه مُغلقة على من حوله، فنقرأ «وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ، الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوبًا بِالْقُرُوحِ، وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ» (لوقا١٦: ٢٠، ٢١). فلما ماتا، الغني ولعازر، مثل بقية البشر، دار هذا الحوار بين الغني المرفّه وبين أبينا إبراهيم «فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ» (لوقا١٦: ٢٥).
ونلاحظ هنا، أن أبينا إبراهيم لم يقُل للغني: أنت كنت تتعزى ولعازر كان يتعذب في الحياة، وانعكس هذا الوضع في الأبدية، ولكنه قال له: الآن هو يتعزى وأنت تتعذب، ومن هذا أستنتج أنه حتى الرفاهية التي طلبها وعاشها الغني، فإنها لم تستطع أن تضمن له السعادة في حياته، ولم تأتِ له بالعزاء في أبديته، فلا توجد علاقة بين الرفاهية والسعادة.
مصدر السعادة
وعلى عكس هذا الغني الكئيب، فإنني تذكرت شخص آخر فاجأته الحياة بأصعب ما فيها، وكان يعاني من مستوى اقتصادي مُعدم، ومع ذلك كان في منتهى السعادة؛ إنه حبقوق الذي قال: «فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي. اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي» (حبقوق٣: ١٧-٢٠).
فمصدر السعادة الثابت عند حبقوق ليس من خلال الممتلكات الأرضية، ولا الثروات النباتية أو الحيوانية، ولا حتى بالتوقعات البشرية والاستثمارية، ولكن مصدر سعادته هو في الرب الذي يخلِّصه ويقوّيه ويجعله يتغلب على أي عائق أو احتياج ينتابه.
عزيزي القارئ.. لا تنتظر وضعًا معينًا من الرفاهية كي تكون سعيدًا، فالسعادة الحقيقية لن تأتي من خلال الممتلكات أو السفريات أو العلاقات، ولكن ستأتي فقط من داخلك أنت، إن سمحت لإلهك أن يملأك ويكون هو ينبوع سعادتك، ووقتها تتم فيك الكلمات: «عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي... فِي دَاخِلِي تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي» (مزمور٩٤: ١٩).