كأي عريسين استعدا.. رتَّبا.. تخيلا.. حلُما.. حدَّدا الزمان، والمكان، المدعوين، الخدام والمرنمين، فكَّرا، ماذا نلبس؟ وأين نجلس؟ كيف يكون الحفل؟ وكيف تكون الزينة؟ من سيقدِّم البرنامج؟ من يبدأ ومن يختم؟ كم عدد الترنيمات؟ وكيف نقف ونتلقّى التهاني والسلامات؟
وهكذا مرَّت الأيام.. واقترب يوم العرس.. يوم الفرح.. يوم الزفاف.. الليلة الكبيرة.. ليلة العمر..
وهكذا كان.. وليس في الإمكان أبدع مما كان.. كل شيء على ما يرام.. استمتعنا.. تلألئنا وأضأنا.. كنا نجمين زاهيين.. كل الأنظار اتجهت نحونا..الكل يحيينا، يبتسم في وجوهنا، كنا أجمل من في المكان.. وكانت الليلة مميزة بل وأجمل الليالي لنا.. ودَّعنا وشكرنا وحيَّينا الجميع من أهل وأصدقاء ومحبين، أخيرًا.. صرنا واحدًا ليس اثنين بعد.. كل منا وجد نفسه في الآخر.. وجد من يحبه، ويشفق عليه، ويمسك بيديه، يسنده، ويؤازره، يحس به، ويفهمه، ويشجعه. لماذا لا نفرح؟ بلى لنفرح، وكل وحدة وحرمان نطرح.. وها نحن في الطريق لنسترح في بيتنا الجديد والسعيد.. سنلتقي هذه المرة بلا فراق أو وداع، سنطفئ لوعة الحرمان، لن نفترق بعد اليوم.. لقد خلقنا الله لنكون واحدًا.. وإلى الأبد.. نحكي معًا.. نجلس معًا.. نحيا معًا.. وسيتوَّج حبَّنا بوحدة وانسجام.. كل الأيام.. وعلى الدوام.
وهكذا ذهب العروسان إلى بيتهما.
وفي الصباح ذهبا الأهل للتهنئة في الصباحية، كعادة أهل الصعيد.. طرقوا الباب كثيرًا، واستمر الطرق طويلاً، فلم يفتحا. ربما بسبب التعب والسهر، وربما نوم عميق، ونعاس ثقيل.. كلا بل ماتا معًا بسبب استنشاقهما غاز البوتوجاز الذي تسرب من سخان الحمام، وخنقهما ليناما معًا وبلا افتراق في بيتهما الأبدي.
عزيزي هذه قصة رفيق ومارسيل، من قرية اتليدم - أبو قرقاص – المنيا.
لقد ماتا معًا في ليلة زفافهما ليكتبا لنا معًا رسالة العمر، ورسالة الحياة، بل ورسالة الأبدية.
رسالة رقيقة من زوجين حالمين، غربت شمسهما في رابعة النهار.
رسالة تقول لنا: إن الحياة أقصر جدًا مما نتصور، يصرخان في أذاننا: «أَيَّامَنَا عَلَى الأَرْضِ ظِلٌّ» (أيوب٨: ٩)، «إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ جُعِلَ... إِنَّمَا كَخَيَال يَتَمَشَّى الإِنْسَانُ» (مزمور٣٩: ٥، ٦). حياتنا كحلم (مزمور٧٣: ١٩، ٢٠)، وكقصة (مزمور٩٠: ٩)، وكعشب يزول (١بطرس١: ٢٤؛ إشعياء٤٠: ٦-٨)، إنها أسرع من عداء (أيوب٩: ٢٥).
نكون اليوم، ولا نكون غدًا، اليوم نملأ الدنيا عجيجًا وضجيجًا، لعبًا وصخبًا، ثم نسكن ونسكت، نهدأ ونصمت، ولا نقدر على فعل شيء..
آه لو أدرك الإنسان هذه الحقيقة ووعاها، أعتقد أنه سيكون أكثر هدوءًا وأكثر حكمة ورزانة. فلو وضع نصب عينيه أنه قد يرحل اليوم أو ربما غدًا، لصار أكثر لطفًا وأكثر وداعة وتواضعًا ورصانة.. لعله يتدبر ويتفكَّر أن الحياة قصيرة وان الأبدية طويلة.. ويؤمن أنه مسكين أمام المرض، وضعيف أمام الحوادث، ولا شيء أمام ملك الأهوال، الموت.
لذا ليت الإنسان يتواضع تحت يد الأقوى والأبقى، يحسن التصرف في الوجود لكي يتمتع ويهنأ بالخلود.. فلا ينفق حياته في اللذات والشهوات، بل يقترب من الرب ومن المقدَّسات..
ليتنا بحق نستفيق ونصل إلى نهاية أنفسنا ونعرف ضعفها وهشاشتها، ونقول بصدق من القلب: «عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ، فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ. هُوَذَا جَعَلْتَ أَيَّامِي أَشْبَارًا، وَعُمْرِي كَلاَ شَيْءَ قُدَّامَكَ. إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ جُعِلَ» (مزمور٣٩: ٤، ٥).
أَعلَم أن عروسينا مؤمنان، عاشا للرب، وماتا فيه، ويقينًا هما الآن مع المسيح يقضيان لا شهرًا من العسل بمفهومنا، بل أمجد وأحلى وأسعد الأوقات مع المسيح، وذاك أفضل جدًا.. لقد هزَّتني صورتهما وهما يلوحان ويودعان الجموع، وكأنهما يقولان لنا: ننتظركم في الفرح الكبير، يوم عرس المسيح الحمل. هذا هو الرجاء، بل هو أسمى أمل.. ليتنا الآن نسلم له النفس والنفيس، العمر والأجل.. آمين.