العلاج الجذري لمرض الجدري
كانت سنة ١٧٩٦ سنة تعيسة على البشرية، بسبب انتشار وباء الجدري Smallpox وهو مرض خطير وفتاك سريع الانتشار، ومن أعراضه التعب والهزال مع ارتفاع حاد في درجة حرارة الجسم، ثم ظهور طفح شديد على الجلد. وعادة تبدأ الأعراض بالظهور بعد ١٢ يومًا من الإصابة. هدَّد الوباء حياة أكثر من ٦٠ مليون شخص. وبذل العلماء والباحثين جهدًا مضنيًا للحد من هذه الكارثة، وللأسف باءت كل المحاولات بالفشل، وتفشي المرض في أماكن كثيرة.
لاحظ الطبيب والعالم الإنجليزي إدوارد جينر Edward Jenner شيئًا غريبًا، وهو أن مربيات الأبقار وبائعات اللبن لم يُصَبن بالجدري البشري، بالرغم من إصابتهن بجدري الأبقار، لكنَّ ذلك أعطاهم مناعة من الإصابة بمرض الجدري. وبالرغم من أن أعراض جدري الأبقار تتشابه كثيرًا مع أعراض جدري الإنسان، لكن يمكن الشفاء منه، وهو غير قاتل. وهنا خطرت على باله فكرة كانت السبب الرئيسي لإنقاذ العالم كله من كابوس الجدري اللعين، وهو حقن الإنسان بجدري البقر - غير المميت - ليعطي المناعة من الجدري البشري المميت. وبالفعل استطاع أن يحصل على فيروس جدري البقر من خلال مربيات الأبقار الذين انتقلت إليهم العدوي من الأبقار المصابة بالجدري. لكن بقيت مشكلة، وهي: مــن هو الإنسان السليم غير المصاب بالمرض والذي يرضى أن يتطوع حتى يجرب فيه ليثبت نجاح اكتشافه؟
يوم ١٤ مايو١٧٩٦ نشر إدوارد خبرًا في مجلة علم الطب الوقائي قال فيه: “وجدت صبيًا صحيحًا في الثامنة من عمره بغرض حقنه بجدري البقر الذي حصلت عليه من قرحة من يد إحدى العاملات في حلب ألبان البقر. في البداية لم تبدو على الصبي أي أعراض للمرض بعد حقنه بالجدري البقري، لكن لم تمضِ سوى ٧ أيام حتى توعَّك الصبي وأصيب بدوار شديد وفقد شهيته. مَرَّت الأيام صعبة ومريرة على د. جينر منتظرًا المجهول. لكن بعد ٣ أيام أخرى تعافى الصبى تمامًا ولم يُصَب بأي آذى. ووقتها أعلن د. إدوارد عن نجاح اختراعه، كما أفصح عن هوية الصبي الذي قَبِلَ أن يكون هو الضحية ليجرِّب اللقاح فيه، إنه: ابنه الوحيد.
لقد قام د. جينر بعمل عظيم يذكره له التاريخ، وكسب حب واحترام العالم له، إذ صار أبًا لعلم التطعيم وصاحب براءة إختراعه، ومن خلاله أنقذ مئات الملايين من البشر. وإلى يومنا هذا لا يزال الإنجليز يحتفلون فى ١٤مايو من كل عام، بما صنعه د. جينر تذكارًا له.
عزيزي القارئ: سوف يظل العالم مديونًا وممتنًا لتضحيته بابنه الوحيد ليوجد العلاج الأوحد والأنسب لهذا المرض الخطير. وهو في هذا يعطينا صورة باهتة عن أبينا السماوي «الَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ» (رومية٨: ٣٢). لذا دعني أشاركك عزيزي القارئ بهذه الثلاثية:
١- إنـتــشــار الداء:
يوضح لنا الكتاب المقدس إنتشار الخطية والشقاء ما بين الجنس البشري كله إذ يؤكد بولس الرسول «أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية٣: ١٢). هذا ما أدركه النبي إشعياء قديمًا فأعترف «كُلُّ الرَّأْسِ مَرِيضٌ، وَكُلُّ الْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ إِلَى الرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ» (إشعياء١: ٥-٦)، وانطبقت علينا نبوته «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ» (إشعياء٥٣: ٦). وصدر التقرير النهائي والإلهي عن الحالة البشرية كالتالي: «وَرَأَى اللهُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ» (تكوين٦: ١٢).
٢- الحاجة إلى الدواء
مع زيادة انتشار الداء والمرض، ظهرت الحاجة الماسة والمُلِحَة لدواء حقيقي لتلك الكارثة. كان د. جينر هو الرجل المناسب في الوقت المناسب، واستطاع أن يستغل علمه لاكتشاف الدواء الفعال لهذا المرض العضال. تمامًا، مثلما انتشرت الخطية في الجنس البشري، وكان لا بد من دواء حقيقي لهذا المرض الخطير الذي يؤدي إلى الموت «لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية٦: ٢٣). الخطية هي الداء الخطير الذي لاحق الإنسان منذ أوائل أيامه «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رومية٥: ١٢). وظل السؤال الحائر منذ بداية الإنسانية بحثًا عن دواء وعلاج يوصل الإنسان النجس بالله القدوس، فاعترف أيوب قديمًا «لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا» (أيوب٩: ٣٣). حتى جاء المسيح المصالح والفادي الذي «صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا» (عبرانيين١: ٣)، فصار هو «الوَسِيطٌ الوَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (١تيموثاوس٢: ٥). لقد علَّمنا أثناء وجوده على الأرض قائلاً: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ» (مرقس٢: ١٧)، وختم رحلته هنا على أرضنا بالصليب محتملاً الشقاء ليعطينا الشفاء «الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ» (١بطرس٢: ٢٤)، وهناك سالت دماه لتطهر من كل داء «وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (١يوحنا١: ٧).
٣- حب وعطاء
المقياس الحقيقي للمحبة هو: التضحية، وقد صدق القول: “قل لي بماذا ضحيت، أقول لك حجم محبتك”. قد نتعجب من محبة د. إدوارد الذي بشجاعة نادرة، ومحبة صادقة لمرضى الجدري المهدَّدين بالموت، قدَّم ابنه الوحيد ليكون الضحية نيابة عن العالم أجمع، إذ كان ابنه صحيح وبلا أي مرض. على أن التعجب الأعظم هو من الأب السماوي: «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ» (رومية٨: ٣٢). فقد برهن الله على محبته لنا بموت المسيح النيابي عنا «وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية٥: ٨). فبموت المسيح وتضحيته لأجلنا أعطانا الحياة والرجاء وأنقذنا من الشقاء والهلاك «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا٣: ١٦).
صــلاة :
أبي السماوي...
لقد أحببتني بحب عجيب.. إذ بذلت ابنك الوحيد لأجلي على عود الصليب.. فأنقذتني من نار جهنم وعذاب اللهيب.. لتضمن لي معك في السماء أحلى نصيب.. شكرًا لك يا أغلى وأسمى حبيب.. أعطيك حياتي وأسكبها لديك عطرًا يطيب.