كانت “آن فوسكم” في الرابعة من عمرها، تلهو في منزلها مع أختها التي كانت تكبرها بأعوام قليلة، عندما اندفعت الأخت تُطارد قطتهما التي خرجت من باب المنزل المفتوح، لتصدمها سيارة نقل بضائع، لتَلقى حتفها في الحال.
وأصيبت “آن” بصدمة وهي تُشاهد - بصمت وهلع - أبويها وهما يحتضنان جثة أختها الهامدة. ولم تستطع على مر السنين نسيان كلمات وبكاء وصراخ أبويها، ولا منظر جثة أختها.
ولسنوات طويلة عاشت الأسرة كلها في جو المأساة، وفي فراغ لا يمكن لشيء أن يملأه. ويا للفراغ البارد الكئيب الذي غمر حياة العائلة بالحزن! تجمَّدت المشاعر، وكانت الراحة الوحيدة لهم تخدير مشاعرهم، وفقدان الحس. انتهاء الحزن كان أمرًا لا يمكن لأحد توّقعه ولا تصوّره. أما “الفرح” فبدا لهم كأنه حلمٌ صعب المنال؛ لقد ذهب بلا رجعة.
وكان الحزن الذي أحاط بموت أختها هو الذي شكَّل رؤية “آن” للحياة ولله. والعالم الذي ترَّبت وترعرعت فيه، كان لا يعرف شيئًا عن الفرح ولا عن النعمة الإلهية!
وفي سن الشباب، بدأت “آن فوسكم” رحلة لاكتشاف هذا “الشيء المُراوغ” الذي بدا لها أنه لا يمكن الحصول ولا الوصول إليه؛ الشيء الذي يُسميه الكتاب المقدس: “الفرح”.
وبدأت “آن” رحلتها في البحث عن الفرح، يوم اكتشفت أن الكلمات التي تُعبِّر عن “الفرح”، تأتي من الكلمة اليونانية “شارو”، والتي وجدت أنها - في معناها اليوناني - تعني “الشكر”. فتساءلت: هل يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة؟!
ولكي تختبر اكتشافها، قررت “آن” أن تُقدِّم الشكر للرب من أجل ١٠٠ عطية لديها بالفعل. بدأت ببطء، لكن سرعان ما تدفق الامتنان منها بسهولة وهي تُعدِّد بركات الرب شاكرة. وأصبح يتدفق داخل كيانها تيار من المشاعر المُحبَّبة المرغُوبة، التي تتمنى استمرارها. وهذا التيار من المشاعر أصبح يقشع من أمامه كل سحب مآسي الحياة، وضبابها الكئيب الحزين.
واكتشفت “آن فوسكم” أن تقديم الشكر للرب، يُجلِب للحياة الشعور بالفرح الذي كان قد مات يوم ماتت أختها. اكتشفت أن الفرح يأتي مع الشكر؛ فرح الحياة يأتي من قلب شاكر، ولا يعتمد على ما في جيبك، ولكن على ما في قلبك.
ويوم قرأتُ قصة “آن فوسكم” تذكرت الأصحاح الثالث من سفر مراثي إرميا. هناك تجد المُتكلِّم كئيبًا جدًا وحزينًا، يُعدّد كل مصائبه وكل الأحمال التي ثقلت على كاهله: «أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ. قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ وَلاَ نُورَ... أَسْكَنَنِي فِي ظُلُمَاتٍ كَمَوْتَى الْقِدَمِ. سَيَّجَ عَلَيَّ فَلاَ أَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ. ثَقَّلَ سِلْسِلَتِي... أَشْبَعَنِي مَرَائِرَ وَأَرْوَانِي أَفْسَنْتِينًا، وَجَرَشَ بِالْحَصَى أَسْنَانِي. كَبَسَنِي بِالرَّمَادِ. وَقَدْ أَبْعَدْتَ عَنِ السَّلاَمِ نَفْسِي. نَسِيتُ الْخَيْرَ».
وهكذا يستمر نحو ثلاثين شكوى من ظروفه المُرّة إلى أن ينتهي إلى القول: «قُلْتُ: بَادَتْ ثِقَتِي وَرَجَائِي مِنَ الرَّبِّ» (ع١٨)، شاعرًا أنه قد غاص تحت تلك الأثقال، بلا أمل في النهوض.
ولكن من المدهش أنه يتحول إلى الله فجأة بأفكاره، فتتغير لهجته بالتمام ويقول: «أُرَدِّدُ هَذَا فِي قَلْبِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُو. إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ. هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ. نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ قَالَتْ نَفْسِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُوهُ. طَيِّبٌ هُوَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجُّونَهُ لِلنَّفْسِ الَّتِي تَطْلُبُهُ. جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ الرَّبِّ» (ع٢١-٢٦). وهكذا هو الحال دائمًا. عندما نتجه إلى الله في ضيقاتنا فإننا نجد الكثير لنشكره لأجله.
فيا صديقي المؤمن: إذا كنت حزينًا ومكتئبًا، جرِّب الشكر. وإذا كنت فاشلاً صغير النفس خائر القوى، جرّب التسبيح. قد تقول: “لأجل أي شيء أشكر وأسبّح؟!” دعنا نواجه الحقائق. هل تركك الله بلا أية بركة منه، أو أي ينبوع فيه، يستحق أن تُسبّحه لأجله؟ خذ كل أحزانك إلى الله، وأخبره بكل ما يتعبك ويفشلك. تحدث معه عن كل شيء، وأعطِه الفرصة ليُريكَ السبب في كل شيء. ولا تمضِ دون أن تشكره على كل البركات التي لك منه، وعلى بركة كونه أبيك الذي يهتم بك شخصيًا، والذي تستطيع أن تأتي إليه بكل متاعبك. عدِّد أمامه كل البركات التي تتمتع بها واحدة فواحدة، واشكره لأجلها «اِفْرَحُوا كُلَّ حِينٍ. صَلُّوا بِلاَ انْقِطَاعٍ. اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ» (١تسالونيكي٥: ١٦-١٨). جرّب هذا فإنه يستطيع أن يصنع العجائب، ويحوِّل تذمراتك إلى تسبيح، وأحزانك إلى ابتهاج «حَوَّلْتَ نَوْحِي إِلَى رَقْصٍ لِي. حَلَلْتَ مِسْحِي وَمَنْطَقْتَنِي فَرَحًا» (مزمور٣٠: ١١).
إن الله لم يخطئ حين قال: «اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ». إنه كان يعلم أن هذا ما تحتاج إليه لرفعك. إن غير المؤمن ليس له ما يستند عليه في أوقات الشدة إلا ذراع البشر، أما أولاد الله فإنهم يجدون ما يرفع نفوسهم في معرفة البركات الكثيرة التي لهم، وفي التسبيح والشكر لله لأجلها، فيمضون في طريقهم فرحين، إذ أن لهم في الله القدير أبًا محبًا لا يخيب رجاء أولاده «أُبَارِكُ الرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ. دَائِمًا تَسْبِيحُهُ فِي فَمِي» (مزمور٣٤: ١).
عزيزي: جرِّب الشكر، فإن الشكر يُغيّر الأمور، ويُبدّل الأحوال.
إن جُودَ اللهِ يدعو للسُّرورْ زمَنَ الخَيرِ وفي وَقتِ الشُّرورْ
فمتي هبَّتِ الأحزاَنُ تثورْ بَركاتِ الربِّ عدِّدْ شـــــــــــاكِرًا
بركاتِ الربِّ عدِّدْ شاكِرًا واعترف بالجُودِ حتّي في العناءْ
كلَّ صُبحٍ ومساءٍ ذاكِرًا جُودَهُ السّامي بحَمدٍ وثَنـــــــــــاءْ