المُعلِّم



من ألقاب المسيح في الكتاب المقدس. قالها عن نفسه أو قيلت عنه حوالي ٦٠ مره في البشائر الأربع. مُعلّم يختلف عن كل المُعلمين، كان يُعلّم بسلطان، وهذا يختلف عن تعليم الكتبة. فهو الصادق والأمين، وأقواله صادقة وأمينة. وأيضًا كلماته تحمل في داخلها قوة وحياة. كان تعليمه بالسهولة التي يفهمها الطفل كالشيخ، والعامي كالمتعلم. بحق انطبق فيه قول أيوب «مَنْ مِثْلُهُ مُعَلِّمًا؟» (أيوب٣٦: ٢٢).

ما كان يفعله ويُعلِّم به

كان عاملاً قبل أن يكون مُعلِّما. فقبل أن يطلب شيئًا من أحد كان يقدِّم القدوة والمثال. كان يعيش قبل أن يقول. وهنا كان سر قوة وسلطان المسيح في تعليمه. جاء المسيح لا ليؤسِّس دينًا يَلزَمه طقوسًا وفرائض، بل ليعطي حياة جديدة تظهر في سلوك من نالها. وهذا السلوك لم يعلِّمه المسيح بأقوال، بل بأفعال. فإن كانت الخطية قد أفسدت في الإنسان كل صورة جميلة خُلق لأجلها، لكن في المسيح الذي مات وقام، صار المؤمن به خليقة جديدة، يرى فيها الله ليس صورة لآدم قبل السقوط بل أبناء مشابهين صورة ابنه. ولكي تظهر فيك أخي المؤمن هذه الصورة، عليك أن تتعلم الدروس العملية التي قدَّمها المسيح في حياته، عليك أن ترى المثال الذي صادَقَت عليه السماء وأعلنت سرورها به، وتتبعه «تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ» (١بطرس٢: ٢١). وهذا ما قصدتُ بنعمة الرب أن نتأمل فيه في هذه السلسلة من المقالات. سنرى بيان عملي قدَّمه أعظم مُعلِّم، في الوداعة والتواضع، والمحبة، والمسامحة، والعطاء، والسلوك، وغسل الأرجل واحتمال الآلام...

البيان الأول: الوداعة والتواضع

«تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (متى١١: ٢٩). لم يُعطِ محاضرة عن الوداعة والتواضع، بل أعطى مثال حي كيف يكون الإنسان وديعًا. فقد رأى تعاليم الكتبة والفريسيون الذين يقولون ولا يفعلون، وأصبحت تعاليمهم ثقلاً وحملاً أرهقت الناس، ونيرُ لم يستطع أحد حمله. فأعطى نموذجًا حيًا وهو يجسِّد الوداعة والتواضع.

تعريف الوداعة

عرَّفها أحد الكُتّاب بالآتي: ليست هي الخوف والجُبن، بل هي مظهر ووصف للقوة الداخلية في القلب، لإنسان لا يطلب ما لنفسه وغير متمركزًا حول ذاته. وهي أيضًا الهدوء والاطمئنان أمام إساءات الآخرين.

وداعة المسيح

١– في علاقته مع الله: نراه خاضعًا لمشيئته ومهتمًا بفعلها تمامًا. بدءًا من إرساليته إلى العالم «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ» (غلاطيه٤: ٤). ثم في كل حياته كان لسان حاله «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يوحنا٤: ٣٤). وأخيرًا وهو ذاهب للصليب، وهو عالم بكل ما يأتي عليه، شبَّه آلام الصليب بكأس مُرّة قال عنها للتلاميذ «الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ أَلاَ أَشْرَبُهَا؟ا». وقال لله: «وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ».

٢– في علاقته مع نفسه: دخل الأرض وديعًا. فمع أنه ملك الملوك، لكنه لم يدخُلها من قصر الملك في أورشليم مدينة الملك. لكنه دخل الأرض طفلاً مقمَّطًا في مذود. ودخل الخدمة وديعًا إذ اعتمد من يوحنا مع الخطاة التائبين في نهر الأردن. ودخل أورشليم وديعًا تحقيقًا لنبوة النبي زكريا (٩: ٩) «قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ» (متى٢١: ٥). وبعد انتصار الصليب دخل السماء وديعًا، إذ هو هناك وله نفس الاسم الذي عاش به «يسوع» مع أن كاتب العبرانيين يقول عنه «رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ» (٤: ١٤).

٣- في علاقته مع الآخرين:
ماذا ننتظر من شخص عاش خاضعًا لمشيئة الله، مُخليًا نفسه من مظاهر العظمة والأبَّهة، وهو يتعامل مع الآخرين. إلا كل وداعة.

كان هكذا الرب يسوع. لم يكن ضعيفًا بل كان يتسم بالشجاعة والقوة وهو يُعلن الحقَّ ويواجه الفريسيين والكتبة والكهنة. ولكنه كان وديعًا وهو يواجه غضبهم وخططهم الماكره لكي يهلكوه. يقول الكتاب «فَعَلِمَ يَسُوعُ وَانْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ» لكي يتم ما قيل بالنبوة عنه «لاَ يَصِيحُ وَلاَ يَرْفَعُ وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ» (اقرأ متى١٢: ١-٢١). أيضًا قادته وداعته ألا ينتقم لنفسه. فعندما أساء إليه السامريون ولم يقبلوه في قريتهم رفض طلب يعقوب ويوحنا أن تنزل نار من السماء وتفنيهم (لوقا٩: ٥١-٥٦).

تنفيذ البيان عمليًا في الحياة

تعلَّم الرسول بولس هذا الدرس من المسيح فعلَّمه للمؤمنين. كان يفعل ثم يتكلم ويعلم الآخرين «وَمَا تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَتَسَلَّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، فَهذَا افْعَلُوا» (فيلبي٤: ٩).

وداعة المؤمنين عمليًا

إن كنَّا قد تعلَّمنا المسيح، وتعلَّمنا منه فالوداعة تظهر في مواقف كثيرة، نذكر منها:

الوداعة تظهر عندما يخطئ أو يزل أحد ونعالجه ونصلحه بروح الوداعة لا بروح أخرى (غلاطية٦: ١).

الوداعة تظهر في مناقشاتنا وإجاباتنا على الآخرين «مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ»
(١بطرس٣: ١٥).

الوداعة تظهر في قبول التعليم على أنه من الله وليس من المتكلم «فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ»
(يعقوب١: ٢١).

عزيزي القارئ:

إن تعلَّمنا المسيح في شخصه لن نجد صعوبة في أن نتعلم كلمته ونحفظها ونعيشها. وإن جلسنا أمامه كثيرًا ونظرنا وتأمَّلنا مجده وصفاته؛ بالتأكيد سنتغير إلى تلك الصورة عينها. المسيح لم يكتب لنا كتابًا مليئًا بالأوامر والنواهي، بل أعطانا بيانًا عمليًا ومثالاً حيًا كيف تكون الحياة المسيحية الحقيقية التي ترضى عليها وتقبلها السماء. فليتنا نتعلمه ونتبع خطواته.