مريم فتاة يهودية، كانت تسكن قرية بيت عنيا، أخت مرثا ولعازر، وتأملنا في المرة السابقة جلوسها عند قدمي الرب ثلاث مراث: في الأولى كانت تسمع كلامه، والثانية كانت تطرح مشكلتها وحزنها أمامه، والثالثة كانت تسكب الطيب وتسجد له. والآن تستكمل الدراسة:
مريم تصمت أمام شكاية الآخرين
عندما ذهب الرب يسوع إلى بيت عنيا قبلته مرثا في بيتها، ولكنها كانت مرتبكة في خدمة كثيرة ومهتمه ومضطربة لأجل أمور كثيرة، وعندما رأت مريم جالسة عند قدمي الرب ولا تساعدها، وقفت وقالت: «يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!». لم تتكلم مريم في هذا الموقف ولم تدافع عن نفسها، بل ظلت صامتة. لذلك دافع عنها الرب وقال لمرثا: «مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا». وعندما سكبت مريم الطيب على رأس الرب وجسده ورجليه، قال التلاميذ: «لِمَاذَا هذَا الإِتْلاَفُ؟» وقال يهوذا الإسخريوطي: «لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟» لكن مريم في هذا الموقف أيضًا لم تتكلم ولم تدافع عن نفسها بل ظلت صامتة، لذلك دافع عنها الرب.
قديمًا صمتت حنة زوجة ألقانة أمام كلام “فننة” ضرتها التي كانت «تُغِيظُهَا غَيْظًا لأَجْلِ الْمُرَاغَمَةِ (الإذلال)، لأَنَّ الرَّبَّ أَغْلَقَ رَحِمَهَا» (١صموئيل١: ٦). لكنها ذهبت للرب وسكبت شكواها أمامه، والرب الصالح سمع صلاتها ورأى دموعها وأعطاها ابنًا، ودعت اسمه صموئيل.
والرب يسوع - المثال الكامل لنا - صمت أمام شكاية اليهود الأشرار الذين اتهموه باتهامات كثيرة وباطلة، وتمت النبوة: «كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء٥٣: ٧، اقرأ أيضًا متى٢٦: ٦٣؛ ٢٧: ١٢-١٤؛ مرقس١٤: ٦١؛ ١٥: ٥؛ لوقا٢٣: ٩؛ يوحنا١٩: ٩).
الصمت يحتاج لقوة أعظم من الكلام. يا ليتنا نتعلم أن نصمت أمام شكاية الآخرين، وندع الرب يدافع عنا، وهو سوف «يُخْرِجُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ، وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ» (مزمور٣٧: ٦).
مريم اختارت النصيب الصالح
النصيب الصالح هو الجلوس عند قدمي الرب وسماع كلامه، والشبع والتمتع به، فنعرفه أكثر ونتوافق مع أفكاره ومشاعره. إنَّ تلميذ المسيح يحتاج دائمًا إلى فترة هدوء يجلس فيها عند قدمي سيده. لقد كان تصرف مريم كلغة العروس «أَنَا لِحَبِيبِي، وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ» (نشيد٧: ١٠).
الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا: أي نصيب آخر يمكن أن ينزع منا، لكن التمتع بالرب والشبع به له تأثير أبدي، لأنه سيظل معنا إلى الأبد. ليتنا نجاهد لنجلس عند قدميه كثيرًا، ليكون لنا ما لا يستطيع العدو أن ينزعه منا.
اختارت مريم النصيب الصالح، وأنت ماذا اخترت؟
ذُكر عن الرب أنه «الرَّبُّ الصَّالِحُ» (٢أخبار٣٠: ١٨)، و«الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ» (متى١٩: ١٦)، و«الرَّاعِي الصَّالِحُ» (يوحنا١٠: ١١)، وروحه هو «الروح الصالح» (نحميا٩: ٢٠)، وطريقه هو «الطريق الصالح» (١ملوك٨: ٣٦)، ولأنه هو النصيب الصالح فنستطيع أن نقول: «نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُوهُ» (مراثي٣: ٢٤).
قال الرب لمرثا: «الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ»، وهذه العبارة لها معنيين: أولاً: كان الرب يقصد أنه لا داعي لتعدد الأطعمة التي تجعلك ترتبكي وتضطربي لكن الحاجة إلى نوع واحد من الطعام. ثانيًا: الحاجة إلى شخصه فقط. قال بولس: «أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ» (فيلبي٣: ١٣). فكان المسيح بالنسبة له هو الغرض والهدف، وهذا جعله سعيدًا في أحزانه. وقال داود: «وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ» (مزمور٢٧: ٤).
مرثا ومريم أختان بالجسد، مؤمنتان بالرب يسوع، وتحبانه كثيرًا، لكنهما مختلفتان في شخصيتهما وطبيعتهما وميولهما، وذلك لأن كل واحد منا مختلف عن الآخر، ويستطيع أن يقول: «أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا» (مزمور١٣٩: ١٤).
وعندما نقارن بينهما نجد الآتي:
* كانت مرثا تميل إلى النشاط والحركة، بينما مريم تميل إلى الهدوء والتفكير الهادئ.
* رأت مرثا تعبه فقدَّمت أفضل ما عندها من طعام لكي تكرمه، بينما رأت مريم فيه ملئًا إلهيًا فاقتربت منه لتأخذ منه.
* كانت مرثا تُعدّ الطعام الجسدي (البائد) للرب، بينما كانت مريم تأكل الطعام الروحي (الباقي للحياة الأبدية) من الرب.
* أرادت مرثا أن تخدم الرب، بينما أرادت مريم أن تُخدَم من الرب.
* استقبلت مرثا الرب في بيتها، بينما مريم استقبلته في قلبها.
* كانت مرثا منشغلة بخدمة الرب، بينما كانت مريم منشغلة بالرب نفسه.
* أرادت مرثا أن تُسرّه بحسب فكرها الخاص في ضيافتها له، بينما أرادت مريم أن تُسره بحسب فكره هو وذلك بجلوسها عند قدميه.
* كانت مرثا مرتبكة ومهتمة ومضطربة، بينما كانت مريم هادئة وجالسة عند قدمي يسوع.
* اشتكت مرثا أختها للرب، بينما ظلت مريم صامتة.
* وبَّخ الرب مرثا على اهتمامها واضطرابها، ومَدَحَ مريم على جلوسها عند قدميه.
* كانت مرثا منحصرة في ذاتها، بينما كانت مريم منحصرة في الرب.
ليتنا نتعلم من مريم أن نصمت أمام شكاية الآخرين، وندع الرب يدافع عنا، وأيضًا أن نختار النصيب الصالح الذي لن ينزع منا.