بعد الحرب العالمية الثانية، امتلأت أوروبا بالكثير مِن أطفال الشوارع الجوعى بلا مأوى، والذين تُركوا يتامى إثر تلك الحرب المُدمِّرة. ولقد اُودع هؤلاء الأطفال في مُعسكرات إيواء واسعة، لعلهم يجدون فيها طعامًا وعناية لائقة. لكنَّ المُشرفين واجهتهم مُشكلة حقيقية؛ فالأطفال لا ينامون جيدًا أثناء الليل. كانوا مُضطربين والخوف يمتلكهم، وإذ يخلدون لفراشهم، يكون النوم قد فارق أجفانهم. ومن ينام منهم سرعان ما يستيقظ فزعًا وخائفًا، وكأن كوابيسٌ تُطارده. وهكذا ارتبك المسؤولون في حيرتهم، ولم يجدوا علاجًا، إلى أن جاء طبيبٌ للأمراض النفسية، ومعه الحلّ!
فقد نصح هذا الطبيب فريق المُشرفين أن يُعطوا كل طفلٍ رغيف خُبزٍ لا ليأكله، بل ليُمسكه في يديه متى دخل فراشه. وكانت النتيجة حقًا مُبهرة؛ لقد نام الأطفال بعٌمقٍ ساعات الليل بطولها، لأنهم قد تيقنوا أنَّ لهم طعامًا في صباح اليوم التالي. إنَّ وجود قطعة الخبز فى أيديهم أعطاهم شعورًا بالأمان، ورسالة عناية واهتمام، وأنَّ الخبز متوفر في المكان، وهذا ما كان يحتاجه هؤلاء الأطفال؛ الشعور بالثقة والأمان من جهة الغد.
والحقيقة أن هذا أيضًا ما نحتاجه جميعًا منذ أن وُلدنا؛ خبزٌ ليومنا، ولِغَدِنَا أيضًا. وهذا ما نجده حتمًا فى «خُبْزُ الْحَيَاةِ». ولنتذكر أنه عندما شرح الرب للجموع المعنى الروحي لمعجزة إشباع نحو خمسة آلاف رَجُلٍ بالإضافة إلى نسائهم وأولادهم، فقد أشار إلى نفسه باعتباره «خُبْزُ الْحَيَاةِ» (يوحنا٦). بل لقد استخدم المسيح خمسة تعبيرات مختلفة عن الخبز، كلها تشير إلى مجد شخصه الكريم، فقال عن نفسه إنه:
«الْخُبْزُ الْحَقِيقِيَ» (ع٣٢): فكل ما عداه ليس حقيقيًا، بل وهم وزيف، أو عرضي ومؤقت وزائل.
«الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ» (ع٣٣، ٤١، ٥٠، ٥١): أي إنه سماوي المصدر.
«خُبْزَ اللَّهِ» (ع٣٣): فالمسيح هو طعام الله نفسه؛ موضوع شبعه.
«خُبْزُ الْحَيَاةِ» (ع٣٥، ٤٨): وذلك لأنه يهب الحياة للأموات بالذنوب والخطايا، كما أنه هو الذي يُقيت تلك الحياة. والمقصود هنا بالطبع الحياة الأبدية، لا الحياة الزمنية أو الجسدية.
«الْخُبْزُ الْحَيُّ» (ع٥١): بمعنى أن له حياة في ذاته. فالمسيح ليس فقط يهب الحياة للأموات بالذنوب والخطايا، بل هو في ذاته حي «فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ» (يوحنا١: ٤).
والمسيح - في خلال الحديث - اعتبر أن الأكل والشرب منه مرادفان للإتيان إلى شخصه والإيمان به، فقال: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا». لاحظ أنه لم يقل: “أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يأكلني فلاَ يَجُوعُ”، بل «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ». كما أنه لم يقل: “مَنْ يشربني”، بل «مَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا».
إن مَن يقبل، بالإيمان، حقيقة موت المسيح لأجله، تصير له كل نتائج موت المسيح العظيمة. من ثم فإن هذا الشخص لا يكون محتاجًا أن يَقَبل المسيح مرة ثانية، لأن المسيح لن يتركه، ولكن عليه بعد أن قَبِل المسيح مرة وإلى الأبد، أن يتغذى عليه في شركته معه يوميًا. وهي علامة مؤكدة على امتلاك الحياة الأبدية والروحية.
لقد أتينا أولاً إلى المسيح ونحن خطاة فخلَّصنا. والآن يجب أن نُقبِل إليه لتمتلئ قلوبنا وتشبع به. ولا يستطيع شيء سواه أن يعمل هذا، ولكن يجب أن نصرف وقتًا في حضرته، إن كنا نريد التمتع بمحبته. وعندما نفتح الكتاب، ونقرأ عنه تتعزى قلوبنا، وتشبع بمخلِّصنا العزيز.
ولكن ماذا عن الغد؟ ماذا عن الخوف مما يحمله المستقبل المجهول لنا؟ هل سيتوافر الإمداد والاهتمام بنا في الأيام القادمة؟ نعم من المؤكد أن «خُبْزُ الْحَيَاةِ» متوفِّر للغد، ولا يوجد أحد يمنعنا من الوصول إليه فـ«يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عبرانيين١٣: ٨). والماضي والحاضر والمستقبل، تشملها جميعها، على السواء، محبته ورحمته وأمانته.
فإذا رجعنا إلى الماضي، نجد آثارًا تقطر دسمًا، تُحدّثنا كيف اجتاز بنا الرب، وحملنا في كل ظروفنا وتجاربنا، ولم يعوزنا شيء من الخير. وكم من المخاوف خيّمت كسُحب مظلمة على طريقنا، ولكن الله جعل منها فُرصًا لإظهار محبته لنا، وليكشف لنا عن موارده الغنية، وقدرته على الرعاية والعناية والحماية، وسداد كل الإعوازات. لقد قادنا وأرشدنا، وفي حيرتنا هدانا ودبَّرنا، وفي وقت العوز عالنا وتكفَّل بنا، وفي الحزن عزَّانا وشجَّعنا، ومن المزالق نجّانا وأنقذنا، ومن التيه أرجعنا وردَّ نفوسنا.
وفي الحاضر لا زلنا نختبر معونته ونجاته، وأننا «بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ» من يوم إلى آخرٍ (١بطرس١: ٥). فما أحرانا أن نمدّ أبصارنا إلى المستقبل بقلوب مطمئنة فرحة، فقد وعدنا قائلاً: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ، حَتَّى إِنَّنَا نَقُولُ وَاثِقِينَ: الرَّبُّ مُعِينٌ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي إِنْسَانٌ؟» (عبرانيين١٣: ٥، ٦).
ويجب ألا ننظر إلى المستقبل بعين الريبة، وألا نمزج هموم اليوم بهموم الغد وتجاربه الموهومة، وألا ننسى قول الرب: «لاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ» (متى٦: ٣٤). إن الرب الكليّ القدرة الذي لا يسقط عصفور واحد إلا بإذنه، هو الذي يعتني بنا. إنه لا يتركنا نسير في هذه البرية الموحشة وحدنا، بل يقول: «لاَ تَخَفْ... أَنْتَ لِي... فَأَنَا مَعَكَ» (إشعياء٤٣: ١، ٢). والذين اختبروا الرب يعرفون تمامًا أنه معهم دائمًا، وأنَّ سلامه الذي يفوق كل عقل، يحفظ قلوبهم وأفكارهم فيه؛ لذا فهم يعيشون في رضا وشكر وتسليم، متمتعين بعنايته الدائمة لهم. فما أجدر أن نثق به في كل الظروف، عالمين أن إلهنا الذي نعبده قادر أن يُنجينا من كل شر.
وما أعظم الخسارة التي تلحقنا بسبب عدم استنادنا كليًا على ذراع الرب يسوع يومًا بعد يوم. فإننا بكل سهولة نفزع لأقل سبب؛ فكل ريح تهبُ، وكل موجة تهجُّ، وكل غيمة تَمُرُّ، تُدخِل الخوف والرعب إلى نفوسنا. ولكن لنسمع الرب يقول لنا: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هَكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» (مرقس٤: ٤٠). ومع ذلك فإنه قريب منا جدًا للحماية والحراسة، رغمًا عن عدم إيمان قلوبنا التي سرعان ما تُسيء الظن فيه. إنه لا يتعامل بحسب أفكارنا الضعيفة عنه، بل بحسب محبته الكاملة لنا. فيا ليتنا نتكل عليه بكل هدوء، وتستقر في نفوسنا الراحة العميقة النابعة من الثقة فيه، مهما عصفت الريح وعلا الموج. وعندما نذهب لننام، فلنهنأ بملء الأجفان، ولنترنم، من القلب، بلهجة عالية واثقة:
لِمَ أَخافُ حُزنًا لِمَ يَئنُّ قلبي
أَوْ ظُلمَةً تَدنو ولِلعُلى يَرنو
فَسَيِّدي نَصيبي دَومَا وصاحِبي
يَقوتُ كلَّ طَيرٍ وَكذا يًهتَمُّ بي
أُرَنِّمُ ابتهاجًا أَشدو مِنَ القلبِ
إذْ يَقُوتُ كلَّ طَيرٍ وكذا يَهتَمُّ بي