كان جدعون مترددًا وخائفًا، وأراد علامة ليتأكد أن الرب هو الذي يكلمه، وأنه هو الذي أرسله وسيكون معه. كان قلبه ملتهبًا وهو يسمع كلمات التشجيع من فمه، وأراد أن يبقى معه وقتًا أطول. فقال له: «فَاصْنَعْ لِي عَلاَمَةً... لاَ تَبْرَحْ مِنْ ههُنَا حَتَّى آتِيَ إِلَيْكَ وَأُخْرِجَ تَقْدِمَتِي. فَقَالَ: إِنِّي أَبْقَى حَتَّى تَرْجعَ». (قضاة٦: ١٧، ١٨). ذهب جدعون وعمل جدي معزى، وإيفة دقيق فطيرًا، وخرج إليه. وضع اللحم والفطير على الصخرة، «فَمَدَّ مَلاَكُ الرَّبِّ طَرَفَ الْعُكَّازِ الَّذِي بِيَدِهِ وَمَسَّ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ، فَصَعِدَتْ نَارٌ مِنَ الصَّخْرَةِ وَأَكَلَتِ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ. وَذَهَبَ مَلاَكُ الرَّبِّ عَنْ عَيْنَيْهِ» (قضاة٦: ٢١). فرأى جدعون أنه ملاك الرب، وتحقَّق أن الذي كان يتكلم معه هو الرب نفسه؛ فارتعد ارتعادًا عظيمًا، وشعر بعدم التوافق مع قداسته. ليس فقط أن عشيرته هي الذُلى في منسى وهو الأصغر في بيت أبيه، لكنه لا يصلح كليةً أن يقف في حضرة الله القدوس. فقال: «آهِ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ! لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَلاَكَ الرَّبِّ وَجْهًا لِوَجْهٍ. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: السَّلاَمُ لَكَ. لاَ تَخَفْ. لاَ تَمُوتُ. ف ََنَى جِدْعُونُ هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَدَعَاهُ: يَهْوَهَ شَلُومَ». (قضاة٦: ٢٢–٢٤). إن هذا الشعور بالخوف والارتعاد يشبه شعور إشعياء عندما كان في حضرة الرب، ورأى السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع، والسرافيم حوله ينشدون عن قداسته، فصرخ قائلاً: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ» (إشعياء٦: ٥). ويشبه شعور بطرس عندما كان مع الرب في السفينة وألقى شبكته في البحر، فتخرَّقت الشبكة من كثرة السمك، فصرخ قائلاً: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!». (لوقا٥: ٨). وفي كل الأحوال كان الضمان والسلام في النعمة المؤسَّسة على الفداء بالذبيحة. النار أكلت الذبيحة، وهذا يعنى أن الله قد رضي تمامًا على جدعون، وبناء على ذلك يستطيع أن ينعم بالسلام. وأمام كل هذا، لم يكن أقل من أن يبني مذبحًا ويأخذ مكانه كالعابد الساجد. كل هذا كان لا بد أن يتدرَّب فيه جدعون قبل أن يتحرك للخدمة، والرب يستخدمه لخلاص شعبه من المديانيين. وهو درس لكل شاب يريد أن يخدم.
كان هناك مذبح للبعل في بيت جدعون، وكان عليه أن يبدأ عملية التطهير من البيت. ونحن لا يمكن أن ندين الشر في الآخرين إذا كنا نحتضن ذات الشر في بيوتنا. وهذا يسبب عثرة لمن يعرفون حياتنا الخاصة، ولن تكون خدمتنا فعالة ومؤثرة طالما نعيش هذه الازدواجية.
جدعون هدم مذبح البعل في بيت أبيه وقطع السارية التي عنده، وبنى مذبحًا للرب وأصعد عليه الثور الثاني. وخاف أن يعمل ذلك نهارًا، فعمله ليلاً، وكان معه عشرة رجال من عبيده. بكَّر أهل المدينة فوجدوا أن مذبح البعل قد هُدِم، وعرفوا أن جدعون هو الذي فعل هذا، فطلبوا أن يقتلوه. قال لهم يوآش: «أَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ لِلْبَعْلِ؟... مَنْ يُقَاتِلْ لَهُ يُقْتَلْ... إِنْ كَانَ إِلهًا فَلْيُقَاتِلْ لِنَفْسِهِ» (قضاة٦: ٣٠–٣٢).
العمل الناجح سيثير هياج العدو، ليس أن أهل المدينة أرادوا أن يقتلوا جدعون، بل إن المديانيين والعمالقة وبني المشرق اجتمعوا للحرب. ولبس روح الرب جدعون، فضرب بالبوق فاجتمع إليه ٢٢ ألف. إن روح الرب هو العنصر الأساسي لنجاح الخدمة، وبدونه فإن كل نشاط للجسد سينتهي بالفشل. ومسؤوليتنا أننا لا نُحزِن الروح ولا نطفئه.
جدعون طلب علامة أخرى قبل أن يصعد لمحاربة المديانيين، وكان يشعر بالخوف. أما العلامة التي طلبها جدعون فكانت هي علامة الخلاص. من هو المخلِّص؟ وكيف سيتم الخلاص؟
«وَقَالَ جِدْعُونُ لِلهِ: فَهَا إِنِّي وَاضِعٌ جَزَّةَ الصُّوفِ فِي الْبَيْدَرِ، فَإِنْ كَانَ طَلٌّ عَلَى الْجَزَّةِ وَحْدَهَا، وَجَفَافٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا، عَلِمْتُ أَنَّكَ تُخَلِّصُ بِيَدِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَكَلَّمْتَ. وَكَانَ كَذلِكَ. فَبَكَّرَ فِي الْغَدِ وَضَغَطَ الْجَزَّةَ وَعَصَرَ طَلاًّ مِنَ الْجَزَّةِ، مِلْءَ قَصْعَةٍ مَاءً» (قضاة٦: ٣٦–٣٨). إنها علامة التجسد. «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (إشعياء٧: ١٤). «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يوحنا١: ١٤). «نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ» (إشعياء٥٣: ٢). كان عليه كل طل السماء وسرور الآب في كل حياته، وهذا ما ظهر في المعمودية حيث انفتحت له السماء، ونزل الروح القدس مستقرًا عليه مثل حمامة، وصوت الآب يعلن: »هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ«. كذلك على جبل التجلي أقبل عليه صوت من المجد الأسنى قائلاً: »أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ«. في الوقت الذي فيه كان جفاف على الأرض كلها، إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض. أخيرًا ظهر هذا الإنسان الكامل الفريد الذي سيقوم بعمل الفداء والخلاص.
الشق الثاني من العلامة يرينا كيف سيتم الخلاص، وهذا يأخذنا إلى الصليب. ولهذا بدأ جدعون حديثه بالقول: «لاَ يَحْمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ» (قضاة٦: ٣٩). إن صنع الخلاص حتمًا سيقترن بغضب الله، لكن هذا الغضب لن يقع على جدعون بل على البديل، شخص الرب يسوع المسيح الذي واجه حمو الغضب وحده، مع أنه مسرة الآب الوحيد. طلب جدعون في المرة الثانية أن يكون جفاف في الجزة وحدها وعلى الأرض كلها ليكن طل. والكتاب لم يقل «فكان كذلك» كما في المرة الأولى، بل «فَفَعَلَ اللهُ كَذلِكَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ». فلم يكن الطبيعي أن يحل الجفاف بالجزة، ولا الطبيعي أن يغطي الطل الأرض كلها. ولا شك أن الأول سبب الأخير. لقد احتمل المسيح كل الدينونة ونيران العدل وسط ساعات الظلام، وصرخ: «إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟»، وبعدها قال: »أَنَا عَطْشَانُ«؛ كان هذا هو الجفاف الحقيقي لكي يستقر علينا كل رضى الله. وعن هذا الطريق تم الخلاص.
وللحديث بقية بمشيئة الرب