وقف “فولتير” المُلحد أمام لوحة من اللوحات الشهيرة للمسيح المصلوب، فتأثر بها، وانحنى أمامها، وخلع قبعته، فأندفع واحد من تلاميذه وقال له: مستر فولتير، هل آمنت بالمصلوب؟ فقال: لا، أنا أحييه من بعيد...
لقد شهد يوحنا أحداث الصليب، ورأى بعينيه وسجل بقلمه ما فعل الأعداء والأحباء على السواء، من أكرموه ومن أهانوه. من بين هؤلاء نذكر خمسة أصناف من البشر كانوا واقفين عند الصليب، فتُرى في أي مكان تقف؟ وإلى أي فريق تنتمي؟ يقول يوحنا:
١. «وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضًا وَاقِفًا مَعَهُمْ» (يوحنا١٨: ٥)
٢. «وَكَانَ الْعَبِيدُ وَالْخُدَّامُ وَاقِفِينَ، وَهُمْ قَدْ أَضْرَمُوا جَمْرًا لأَنَّهُ كَانَ بَرْدٌ، وَكَانُوا يَصْطَلُونَ، وَكَانَ بُطْرُسُ وَاقِفًا مَعَهُمْ يَصْطَلِي» (يوحنا١٨:١٨).
٣. «وَلَمَّا قَالَ هذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفًا، قَائِلاً: أَهكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟» (يوحنا١٨: ٢٢).
٤. «وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ» (يوحنا١٩: ٢٥).
٥. «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ» (يوحنا١٩: ٢٦).
ويمكن وصف الفئات الخمس كالآتي:
(١) الجاحدون الناكرون
وهذا فريق كبير جدًا من البشر، ليس يهوذا فقط بل أتباعه وتلاميذه، الذين يأكلون خيره ويعبدون غيره. لقد ظل يهوذا مع المسيح لمدة تزيد عن ثلاثة سنوات، صحبة ورفقة، يأكل ويشرب معه، يدخل ويخرج برفقته، وأخيرًا يخونه! ونراه هنا واقفًا مع الأعداء في موقفٍ مخزٍ وجبان، ليبيع سيده بأبخث الأثمان، جاء معهم إلى البستان كمرشد ودليل، فهو يعرف المكان، لذلك قال المسيح عن مثل هذا الصاحب الخائن: «عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي، الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ اللهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي الْجُمْهُورِ» ويقول أيضًا عنه «أَنْعَمُ مِنَ الزُّبْدَةِ فَمُهُ، وَقَلْبُهُ قِتَالٌ. أَلْيَنُ مِنَ الزَّيْتِ كَلِمَاتُهُ، وَهِيَ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ» (مزمور٥٥: ١٣، ١٤، ٢١). فبئس هذا النوع من الأصدقاء. لكن لماذا خان يهوذا المسيح؟ ولماذا باعه بثلاثين من الفضة؟ الإجابة الوحيدة: أنه كان يحب المال، وهل نفع المال؟ أبدًا، لقد ندم (ولكنه لم يتُب)، وردّ الفضة، ولم تُرَدّ نفسه، والنهاية مضى وشنق نفسه. إنها نهاية مؤسفة لصديقٍ خائن.
(٢) الفاترون الباردون
وقف بطرس عند الباب خارجًا، أما يوحنا فقد دخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة، أما بطرس فكانت البوابة محطته النهائية فظل واقفًا مع العبيد والخدام، وكانوا غير مبالين بالمسيح، وهم قد أضرموا جمرًا لأنه كان برد، ثم يأتي هذا التعبير «وَكَانُوا يَصْطَلُونَ، وَكَانَ بُطْرُسُ وَاقِفًا مَعَهُمْ يَصْطَلِي». كان الوضع الطبيعي لبطرس لو سمع وصية سيده وأطاعها أنه: “كان واقفًا ليصلي لا ليصطلي”. فليتنا نترك هؤلاء الباردين غير المبالين وغير المصلّين ونكون في الروح حارين، ولمحضر الرب ملازمين ومواظبين.
(٣) الأعداء المعتدون
سأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه، أجابه يسوع: «أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً... وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ وَلَمَّا قَالَ هذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفًا، قَائِلاً: أَهكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟ أَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟» لقد ضرب الخادم يسوع لأنه أولًا: عبد لإبليس الشرير. ثم أراد أن يجامل سيده رئيس الكهنة على حساب الرب. فصوَّب المسيح له ردًا، وجوابًا كالسهم الذي يخترق القلب والضمير، واعتقد أن عبارة «فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟» سوف تعذب ذلك العبد إذ ترن في أذنه طوال الأبدية التي لا تنتهي، وهذا نصيب كل الظالمين والمعتدين على عبيد المسيح وخدامه. سيندمون ويحزنون، وعلى أسنانهم يصرون، هؤلاء نحن نحبهم ونصلي لأجلهم، فيا ليتهم من الآن يستفيقون ويرجعون.
(٤) الموقِّرون العابدون
كانت واقفات عند صليب المسيح بعض من النسوة، ومما هو جدير بالذكر أن النساء عمومًا لم يسئن إلى المسيح، بل كانوا يقرعون على صدورهم، ويبكون عليه. كانت هناك مريم أم يسوع، وكم كان حزن الأم شديدًا وهي ترى ابنها يتألم ويُظلم ويعاني، لكنها يقينًا كانت في س؛لام فهي من البداية آمنت بكل ما قيل لها، وها هي مع النساء تراقب بخشوع وترقب، وتعبد وتسليم كامل لمشيئة الله المحتومة، لقد تمت نبوة سمعان البار من نحو ما يزيد عن ٣٣ سنة التي قالها لها: «وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ» (لوقا٢: ٣٥).
(٥) الأمناء المحبون
كان واقفًا بالقرب من مريم أم يسوع يوحنا، ويكني عن نفسه بتعبير بديع يا ليته يكون من نصيب الكاتب والقارئ معًا، وهو: «التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ» الذي جاء ٥ مرات في إنجيل يوحنا. لم يقُل: «التلميذ الذي يحب يسوع»، فالذي يضمن استمرارية الحب، ليس حبي له، بل حبه لي. ولأن يسوع يحبه، لذلك كلَّفه بأعظم وأجَلّ الأعمال، وهو العناية بأمه العزيزة «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: "يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ". ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: "هُوَذَا أُمُّكَ". وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ». عندما نكون بقرب يسوع يكلفنا ويشرفنا بأمور خاصة.
عزيزي القارئ وأختي القارئة
أين أنت تقف من صليب المسيح؟ هل تقف في صف الأعداء مع الخائنين البائعين كيهوذا، تبيع المسيح وترمي وصاياه خلف ظهرك؟ أم تقف مع غير المبالين وغير المهتمين الناكرين كبطرس، لتحييه من بعيد؟ أم تقف مع المبغضين الكارهين المعتدين كالذي لطم المسيح على خده؟
يا ليتك، وهذه هي أمنيتنا، أن تقف مع العابدين.. الموقرين.. والمخلصين المحبّين. عند ذلك، وذلك فقط، تتمتع بالخير، كل الخير.